سلايدرمقالات

وفاء العنزي تكتب من المغرب ” رحلة ألم وأمل

أول نظرة أمل هي تلك الدقيقة الفاصلة بين نشوة الحياة ويقظتها،هي الشعلة الأولى التي تنير خلايا الجسم،تمد السرور في الشرايين،هي أول رنة سحرية على أول وتر من قيثارة قلبي ودقاته،هي آونة قصيرة تعيد على مسمع النفس أخبار الحياة من جديد وتستنشق نسيم الروح.
فقد خرجت الأيام عن طبعها الهادئ،وسيرها الرتيب،وعادت جزر الألم فألقت به في الخضم بعد أن قذف المد بالأمل إلى الشاطئ
مضت علي لحظات بطيئة وقاسية تبدو الآن مجرد كابوس ثقيل لا يصدق،أحسست بعزلة تامة،أسرح في أرض مجهولة كتب لها ان تعيش فيها مرة أخرى.
كنت في كل ليلة يكاد يبتلعني فراغ مظلم،ويستبد بي قلق مخيف من أن أفقد أحد أفراد أسرتي الصغيرة،أو يفتقدوني،وينتابني خوف مقفر،،وأشم في كل ليلة عطرا ليس غريبا عني،إنه عرقي الذي كان يتصبب باردا بفراشي فأحس بملابسي الداخلية رطبة،كان السعال الجاف يكاد يخنقني،ويشتد نبضي ،ويختل توازني، وأتضاءل في وقفتي،وتنهار قوتي يوما بعد يوم،فأسقط وأنهض، ثم أسقط فأنهض……
حدث ما لم أكن أتصور أنه سيحدث لي يوما ما،فقد أبى المرض أن يستنفد كل ما لدي من قوة و هطل حولي كزخات المطر،لقد حام الموت حولي،واستشعرت خطاه ورأيت.أثره،وبت أترقب دوري كل يوم وأنتظر أين سيحط الرحال ومن الضحية هذه المرة، لا هي حياة عشتها ولا هو موت عايشته، عشت كابوس الممات وأصبح هاجسي اليومي في كل حالة اختناق.
تخيلت أسوأ السيناريوهات وبات القلق ينتشر صردا،فقد طغت وتجبرت كورونا على العباد،وصارت تختال في كل البيوت بل تنتزع الناس من بين عائلاتهم وتهلكهم.
وبعدما انتظرنا الوباء زواله بحلول فصل الصيف،وجدنا أنفسنا نحن من نزول ونختفي،فأضحت 2020 سنة حزن بامتياز،أرخت بظلالها موتى ومرضى بأعداد لم نألفه يوما وتساقطت الأرواح تباعا كأوراق أشجار فصل الخريف.
كنت اتواصل مع عائلتي عبر الهاتف ونحن في نفس البيت،أصحو على عذب صوت أمي من وراء باب غرفتي تسأل عن حالتي،وتضع لي الطعام وتنسحب،كنت أعاني في صمت من أجل الحفاظ على هدوء أولادي وابنتي ببلاد المهجر أتظاهر اني بخير ولا احد يعلم مقدار هشاشتي وضعفي حينها،فأنا كنت دائما كالجبل الذي لا يهتز بنظرهم،و
هم لا يعلمون اني اموت باليوم مرة ….
عانيت الألم في إغضاء لكي لا أقلق والدي،،عانيت الوجع الكبير في سكون في اضلعي وظهري فكنت أشعر كما لو أنني تعرضت للضرب ،فكنت أتجشم العياء الشديد في كل جسمي ،وكنت فعلا أرغب في نهر الحياة أن يتدفق، ولم أقبل أبدا بهذه الأشكال من المعاناة،فأتحت الفرصة للحياة كي تأتي بنفسها،فرحت بها في كل لحظة ألم لأمل،فأنا دائما وأبدا لم أقلل من قوتها او قيمتها ،فكنت أمنح ذاتي إلى ذاتي وأرغب دائما في الحياة،فلا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة،فالمعاناة لها جانبها من الفرح،واليأس له نعومته وحتى الموت له معناه.
شعوري بالعزلة والانفصال عن مفردات الحياة من حولي يزيدني من شعور المعاناة بصمت،ولكي لا أضعف صحتي أكثر مما هي فيه،ورفاهيتي ونموي الصحي كنت أكتب تعبي ليس بحبر القلم بل بدماء قلبي،فعذرا ان ظهرت لكم بعض الجراح بين السطور،فالصمت لغتي فاعذروني لقلة كلامي ،
أنتم مخطئون إذا تصورتم ان الصمت موت….فالصمت حياة يا أحبائي….الصمت تأمل وأمل…فالأفكار الجديدة وحتى القديمة لا تقفز إلى رأس صاحبها إلا عندما يسكت كل شيئ من حوله…..والمشاعر كلها تتحفز للانطلاق تماما كما يفعل المرء وهو يقف منتظرا طويلا….الصمت أصدقائي أجراس تدق في أذني دقات خافتا أسمعه لوحدي ،إنها الأجراس التي توقظ الذاكرة وتنشط الذهن.
فبالرغم من الصراع اليومي مع الوباء،كنت أحاول أن أجدد قواي ،اختلس فيها أيامي اليتيمة حتى أحيا من جديد،وأتذكر ابنتي وأميرتي الجميلة، وأتذكر ولداي،وأتذكر أبي وأمي، وأتذكر إخوتي وكل اصدقائي،وأستحضر معهم ساعات الفرح،وساعات الحب،وساعات المرح،وأحلم بلحظة الشفاء،وأحلم ان أرتمي في أحضانها ،فقد اشتقت إلى لمسات أمي لخصلات شعري، حنيت إلى حضنها ا الدافئ الذي يحتويني بعمق في أشد الأوقات وجعا،وكيف لي أن لا أشتاق لها وهي دوائي لكل داء أصابني.
أيقنت أن الحياة تتطلب مني توثيق اللحظات،وإخفائها بأعمق نقطة في داخلي لأنها حتما سأحتاجها في بعض الأحيان، فلا بأس أن احتفظ بصور جمعتني مع صديق أو صديقة تخزن لتفاصيل حلوة ومرة،لا بأس أن أحتفظ بتسجيل صوتي لضحكة أمي أو أبي، لأحاديث أبنائي أو إخوتي،
لا بأس أن أعيش أجمل اللحظات دون ندم،لا بأس أن أخلق الاستثناءات أحيانا وأترك الذكريات في قلبي بصورة جميلة ولا أحاول تشويهها،فأنا دائما في حاجة إلى فلاش باك لاسترجاع كل شيئ جميل،فقلبي ناي مثقوب ويحتاج للحن جميل لا تجيد العزف عليه سوى أميرتي الصغيرة وتترك أثرا جميلا حتى في غيابها عني وتناديني” مامي” فتبدد كل آلامي.
فأنا لم تزعجني الحياة يوما،ولم أنتبه لأي أحد اوجعني إلا عندما لازمت الفراش،فأنا لا أتقن دور الضحية والمرأة الضعيفة،فسامحت كل من ارتكبوا أخطاء في حقي،سامحت كل من آداني من قصد أو من دون قصد،سامحت كل من فتحت لهم قلبي وخذلوني،وليشهد علي الله أنني تغيرت،تغير النبض بقلبي،تغيرت تفاصيل حياتي،وفعلت كل ما بوسعي لأبقى نسخة أصلية، ولم ينل مني الوباء،تحملت الأنين لساعات بل لأيام،ولكن لم أرضى باليأس ولو للحظة أن ينال مني،فلك الحمد والشكر يا الله.
مرضت ،هي حروف انتصبت وتراصت وتجانست كي تنسج عبارات تهيب بنعمة العافية،نعم فالصحة نعمة لا يدرك قدرها غير العليل.
مرضت وكنت محتاجة إلى معالجة نفسية قبل المعالجة الدوائية،محتاجة معالجة قلبية قبل المعالجة المادية،فهي تعنيني عن كثير من العلاجات،فضمتني أرواح أخجل ان ألقبهم بأصدقاء فقط ،لأنهم أعمق وأكثر من إخوة ،صنعوا لي الابتسامة والمودة وكل الحب وأنا في أصعب أوقاتي،التمسوا وحسوا بوجعي وحزني من نبرة صوتي وقاموا بإسعادي بمكالماتهم في كل حين ،فعبروا عن أسمى وأرقى علاقة في الوجود وبعثوا البهجة لي .
عليلة طريحة الفراش،ناديت خالقي بصوت خافت عند كل سكون،عانقت الأمان فيه وأدرت ظهري للدنيا وقارعت كل وخزة ألم بكلمة ” الحمد لله”،فقد دخلت كورونا لبيتنا دون استئذان لتكون عبرة لي ولغيري،وحولت محنتي الى منحة ونعمة،ورأيت الرضا يخفف أثقالي ويلغي كل مآسي سدولا،أخفيت صرخاتي في قلبي ولملمت أحزاني في حقيبتي، وحبست دموعي في عيوني ،وودعت الخوف،ودعت الألم جانبا،ومحوت كل توقعاتي الخاطئة، ونسفت خطة موتي، وقمت ،فأنا شجرة قوية صلبة لا تنحني وتنكسر بسهولة، ولن يدهسني الإحباط على قارعة الطريق،ولن يمضغني اليأس بين فكيه ويقضي الحزن وطره مني، فدبت شرارة الحياة في ودفعتني أن أنسج حياتي من جديد، وأشرقت شمس جديدة من نافذة غرفتي ولأول مرة عشقت تفاصيل حياتي البسيطة والهادئة لأتكيف معها ،فأنا اغير اليأس كما أغير ملابسي وما بين عسر وعسر ينبت اليسر،قمت بتدليل نفسي ومنحي دفعة من السرور فجلست على مكتبي لأقرأ وأكتب وأنا أستمتع وأستمع لأغنية وردة وأتذكر أوجاع من يستعملون الكيماوي واذهب الى أوجاعي اللطيفة أحضنها برفق واقول أحمدك واشكرك يارب .
مودتي ومحبتي وفاء العنزي
.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى