سلايدرمقالات

نور الفايدي تكتب من ليبيا،، الانقسام الليبي يدفع فاتورة الصراعات والانقسامات

،

في ظل غياب سلطة مركزية موحدة وعجز المؤسسات المالية والنقدية عن إيجاد حلول للأزمات المتتالية، بات الاقتصاد الليبي على شفا الانهيار، جراء استمرار الهبوط الحاد للإيرادات الحكومية بسبب استمرار إغلاق منشآت النفط شرق وجنوب البلاد للشهر السابع على التوالي ومخاوف من خرق الهدنة التي أعلنها طرفا الصراع في وقت سابق.

استمرار إغلاق المنشآت الحيوية في ليبيا وتعطيل الإنتاج من شأنه أن يدخل البلاد في دوامة أزمات لا آخر لها وفي نفق مالي حرج لن تخرج منه إلا بعد إرساء اتفاق نهائي لحالة الانقسام وعودة الاستقرار السياسي والاجتماعي، ما يعني أن عملية إعادة البناء قد تتعطل لسنوات مع ارتفاع تكلفتها وعبئها على كاهل المالية العمومية.

ويُدرك الليبيون جيدًا أن طرفي النزاع لن يستفيدا شيئًا من الإغلاق القسري للموانئ والحقول وأن الخسارة ستشمل الجميع دون استثناء، لا سيما أن الاقتصاد الليبي يعتمد بنسبة 95% من إيرداته على النفط، ما يعني بالضرورة أن دوامة العجز المالي خلال السنوات الماضية كانت نتيجة فوضى الصراع المسلح وسعي اللواء المتقاعد خليفة حفتر للسيطرة على مقدرات البلاد.

قطاع النفط

يرى مراقبون أن ليبيا خسرت أكثر من 8 مليارات دولار أمريكي، وهو رقم مهم في ظل الأزمة العالمية جراء كوفيد-19 وما تسبب فيه من انخفاض أسعار النفط الدولية، وبالتالي سيضطر البنك المركزي إلى تعويض الفاقد من الاحتياطي الذي سيواصل تآكل أرصدته، ولن تستطيع أي حكومة حاليًّا أو مستقبلًا رد هذا العجز بسهولة، ويحتاج الأمر إلى أكثر من 5 أعوام شريطة إعادة التصدير فورًا.

المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا أعلنت بدورها قيمة الخسائر جراء استمرار إغلاق المنشآت النفطية في البلاد وقدرتها بنحو 9.1 مليار دولار، وذلك بعد أن تراجع إنتاج النفط بشكل كبير منذ منتصف يناير الماضي إلى ما دون 100 ألف برميل بعدما كان يتجاوز 1.2 مليون برميل يوميًا، عقب إيقاف التصدير من موانئ رئيسية في منطقة الهلال النفطي شرقي البلاد.

ورغم مطالبة الأمم المتحدة ودول غربية في مناسبات سابقة بفك الحصار عن المنشآت النفطية لضمان استقرار الاقتصاد الهش بفعل الحرب وتهديد وباء “كوفيد-19، فإن قطاع النفط في ليبيا يُواجه صعوبات نتيجة عدم استقرار عمليات الإنتاج بسبب الإغلاقات المتكررة لحقول وموانئ النفط على خلفية الداخل أمنية أو إضرابات عمالية.

آخر المؤشرات التي أعلنها البنك المركزي الليبي في تقرير أصدره، بينت أن إيرادات النفط خلال الأشهر السبع الماضية، لم تتجاوز 2.2 مليار دينار (1.5 مليار دولار)، وهو رقم ضئيل جدًا مقارنة بالموازنة العامة للعام 2020، التي خصص لها قرابة 30 مليار دولار.

التقرير أوضح أيضًا أن “الإنفاق بين شهري يناير ويوليو من العام الماضي بلغ 19 مليار دينار، فيما لم تتجاوز إيرادات النفط 2.2 مليار دينار”، وذلك بينما تدنت الإيرادات السيادية غير النفطية (الضرائب وما في حكمها) إلى 50%، وبلغت قيمة العجز في إيرادات النقد الأجنبي 5.7 مليار دولار، تمت تغطيتها من احتياطي البنك.

المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا، دعت المسؤولين عن إغلاق الموانئ النفطية إلى التحلي بالمسؤولية والروح الوطنية والشعور بمعاناة المواطن وإنهاء الإقفال غير القانوني لمنشآتها، لتتمكن المؤسسة من استئناف الإنتاج وإعادة عجلة الاقتصاد للدوران من جديد.

في ذات السياق، فإن للإغلاق المتكرر للمنشآت الحيوية نتائج وتداعيات أخرى أهمها استمرار ارتفاع أسعار السلع، إلى جانب ندرة السيولة النقدية في المصارف واختفاء النقد الأجنبي، وكل ذلك يجعل السوق السوداء تتغول على المواطنين لتستغل هذه الأوضاع في رفع مستوى المضاربات التجارية والمالية.

هبوط المؤشرات

تعرف المؤشرات التي ترتبط أساسًا بالاقتصاد هبوطًا حادًا يُنذر بالوصول إلى نقطة إشعال جميع الأضواء الحمراء تحذيرًا من الانهيار التام لكل المؤسسات والقطاعات الحيوية، ويكمن أولها في تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي وصعود العجز في الميزانية العامة وكذلك العجز في ميزان المدفوعات وعدم استقرار الأسعار التي بدأت في الارتفاع، وأخيرًا ارتفاع معدلات البطالة.

من هذا الجانب، توقعت وزارة المالية انكماش الاقتصاد الحقيقي بنسبة 55% مع نهاية العام، وانخفاض نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 66.6%، فيما يُرجح ارتفاع الدين العام بنسبة 150% من الناتج المحلي، وبلوغ العجز في ميزان المدفوعات خلال النصف الأول من العام 5.7 مليار دولار.

كما نبه مصرف ليبيا المركزي من تدني تحصيل الإيرادات السيادية غير النفطية، وبلغت نسبة العجز في تحصيلها 50%، داعيًا الجهات ذات العلاقة إلى جبايتها لتوفير عائدات للخزينة، مشيرًا إلى أنه خلال النصف الأول من العام الحاليّ خسر الدينار الليبي 54% من قيمته، فيما دعا البنك الدولي إلى ضرورة توحيد مؤسسات البلاد المقسمة بين الأطراف المتصارعة.

أزمة مالية بسبب تفاقم عجز الموازنة وتلاشي إيرادات النفط التي إذا استمر غيابها فقد تؤدي إلى استنزاف احتياطي النقد الأجنبي، خصوصًا مع عدم قدرة الحكومات الانتقالية على تحصيل الرسوم السيادية كالضرائب على الأنشطة الاقتصادية المختلفة والبضائع المستوردة.

من المعلوم أن الاقتصاد الليبي ريعي بدرجة أولى ويعتمد أساسًا على مقدرات البلاد وثرواتها النفطية، وبالتالي فإن تراجع الإيرادات إلى مستويات متدنية يؤثر كثيرًا على باقي القطاعات وكل مفاصل الاقتصاد، الأمر الذي يدفع المسؤولين إلى اتخاذ إجراءات وقائية وفرض قيود جديدة على استخدامات النقد الأجنبي، خاصة أن نقص الاحتياطي بلغ 11 مليار دولار.

كل هذه المعطيات تُدلل على أن الاستدامة والاستقرار المالي في خطر في ظل الزيادة المطردة لفاتورة الرواتب وضعف الإنتاج والمردودية وانتشار الفساد والمحسوبية (صفقات عمومية)، وأن ليبيا بحاجة إلى إصلاحات اقتصادية واسعة وإعادة هيكلة جذرية للمنوال التنموي برمته وهي مراحل تشترط بدورها البيئة المناسبة والملائمة كالاستقرار السياسي والاجتماعي وتوافر أرضية آمنة للاستثمار.

أزمة اجتماعية

رغم أن ليبيا أنفقت 425 مليار دينار (303 مليارات دولار) خلال السنوات التسعة الماضية، فإن الأموال التي أنفقتها لم تذهب للاستثمار أو لتحريك عجلة الاقتصاد بل ضختها للاستهلاك، منها 186 مليار دينار على الأجور و71 مليار دينار لدعم المحروقات، ما يفسر عدم تحسن الأوضاع المعيشية للمواطنين.

من أهم المؤشرات التي تُقاس بها الأزمات الاجتماعية وحدتها، هي نسبة البطالة، فارتفاع معدلاتها يُحيل مباشرة إلى تعطل أحد ميكانيزمات الإنتاج أو أغلبها وإلى عجز الدولة عن إيجاد حلول لامتصاصها أو احتوائها عبر إجراءات متعددة منها تعزيز الاستثمار والتشجيع على بعث المشاريع.

وهو الأمر الذي تعيشه ليبيا في هذه الأيام خاصة أن الحرب عطلت رافعات الإنتاج وفاقمت معدلات البطالة التي وصلت إلى نحو 40% خلال منتصف العام الحاليّ وفق تقديرات غير رسمية.

إلى جانب ارتفاع البطالة لغياب الاستثمارات أو إغلاق الشركات بسبب الأعمال العسكرية، فإن ليبيا (غرب وشرق) تعرف أزمات متعددة الأوجه منها غلاء الأسعار وشح السلع والمواد الغذائية إلى جانب وصول شبكة الكهرباء إلى نقطة الانهيار جراء غياب الصيانة ونقص الوقود في محطات التوليد والحصار الذي تسبب في وقف الصادرات النفطية.

عدا عن أن القتال الدائر ألحق أضرارًا بخطوط نقل الكهرباء ومحطات التحكم، ما دفع الشركة إلى قطع التيار بالتناوب لتوزيع الإنتاج المحدود بين المدن (طرح الأحمال)، إلا أن هذا الإجراء كثيرًا ما اصطدم بسطوة المسلحين الذين لا يجدون حرجًا في اقتحام منشآت التوليد للضغط على المهندسين لإعادة التيار إلى مناطقهم.

على الجانب الآخر، صحيح أن الاحتجاجات الأخيرة تكتسب مشروعية لا يُمكن التشكيك فيها أو استنقاصها، فحكومة الوفاق يُعاب عليها انخراطها الكلي في صراعها مع الحكومة الموازية بالبيضاء (شرق) دون إيلاء الشق الاجتماعي ومطالب المواطنين الرئيسية المتمثلة في تحسين الخدمات الصحية وتوفير الماء والكهرباء والمواد المعيشة وكبح جماح الغلاء ومحاربة الاحتكار والسوق السوداء الأولوية القصوى، إلا أن حياد هذا الحراك عن أهدافه الرئيسية يُوحي بأن أيادي خفية تحاول توجيه المواطنين إلى نقطة الصدام والفوضى ضمن مخطط وضعته قوى عجزت آلتها العسكرية عن الإطاحة بالسلطة المعترف بها دوليًا، وهي خطوة تهدف إلى التأثير على التوازنات السياسية الحساسة والهشة في العاصمة (تحالف طرابلس مصراتة).

التفكيك من الداخل هو إستراتيجية تعمل عليها قوى الثورة المضادة تزامنًا مع عملياتها العسكرية قصد كسر حواجز المقاومة وإنهاك قدرات حكومة الوفاق وإغراقها في الفوضى، وهو أمر تفطنت إليه سلطات طرابلس التي دعت إلى التهدئة وتفعيل إجراءات عاجلة لتلبية مطالب المواطنين “الشرعية”.

الخيارات المتاحة

موضوعيًا، ليبيا لا تملك كثيرًا من خيارات الإصلاح الاقتصادي في ظل انخراط عدد من الدول في الصراع الدائر على السلطة وأيضًا في العمليات العسكرية، كما أن توسع دائرة الأزمة إلى حد الآن يجعل توقع حلها محليًا شبه مستحيل، إلا أن في المقابل يُمكنها تقليل الأضرار وتداعيات الفوضى من خلال الآليات التالية:

فرض سياسة التقشف والتحكم في الأجور.فرض قيود على الاستيراد للحد من تآكل الاحتياطي النقدي.مقاومة الفساد والاحتكار.إيجاد آليات فعالة لتشديد الرقابة على الأموال.مكافحة ظاهرة انتقال الأموال خارج القطاع المصرفي.استغلال الاتفاقيات الدولية كسعي إيطاليا لإنشاء لجنة مختلطة للشؤون الاقتصادية (زيارة دي مايو).استئناف الاتفاقيات القديمة التي وقعها سيلفيو بيرلسكوني لإعطاء دفعة جديدة للاستثمارات.الاستثمار في تطوير العلاقات الاقتصادية وتعزيز التعاون المالي بين ليبيا وتركيا عبر مذكرة تفاهم.

بالاخير ، يُمكن القول إن ليبيا التي تُعد دولة مهمة في سلة أوبك النفطية الدولية، لا تمتلك قواعد مالية قوية ولا تنتهج سياسات نقدية سليمة، وأن الصراع المحموم على السلطة وانقسام البلاد إلى قوتين تتنازعان الحكم وانعدام أفق التسوية السياسية بين حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا (طرابلس) وقوات الشرق الليبي (طبرق) مدفوعة بآلة خليفة حفتر العسكرية، سيُفاقم الوضع الاقتصادي سوءًا، لا سيما أن الحلول المقترحة في الوقت الراهن وفق المبادرة الأمريكية لوقف إطلاق النار واقتسام الثروات، لم تبن على برامج واضحة المعالم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى