مقالات

وفاء العنزي تكتب من المغرب تاج رأسي .

تاج رأسي
كانت الحياة رغم قسوتها حينا،وشظفها حينا آخر تسير بيسر وبساطة،فقد قسى علي الزمان….لدرجة أني اعتبرت نفسي سيئة الطالع،فقد أصبحت مستودعا للآلام ومستودعا للعطاء في نفس الوقت…….
فقد تعطل بي قطار الحياة في نصف الطريق ،ونزلت منه مكرهة أجر أذيال همومي،كغارقة في بئر من الأحزان،فاقدة نصفي ،مفقودة وسط الركام،لكني واسيت نفسي ،واستعنت بالله،وارتميت في حضن أنساني كل همومي وآلامي،حضن لا ولن أتمنى زوال نعمته لا لي ولا لغيري،حضن زين لي الطريق ورودا،وصحح لي مسار حياتي ،وجعل محطاتي القادمة من أجمل ما مررت به في دروب حياتي،حضن زرع لي بنفسجا وأريجا يفوح عطرهما من نافذة القطار،الذي استلقيته من جديد،حضن زادني وزودني زادا كافيا للرحيل،حيث كانت رحلتي هذه المرة من أجل تحقيق حلمي وهدفي قبل أن أصل لمحطة النهاية،عازمة أن لا يقف بي في محطة اليأس طالما لدي تذكرة الأمل.
أجل، وجدت حضنا دافئا ،حضن من أكثر الأماكن الضيقة اتساعا،به وسادة ناعمة ،،هو وطن من أجمل الأوطان، صحيح أني لم أحدثكم عنه من قبل،لأنني بصراحة أخاف عليه حتى من نفسي،وأخاف الحديث عنه،لأني وإن تحدث عنه لن أوفيه حقه ولو بالقليل،إنه حضن أمي،وأمي، ثم أمي،زهرة حياتي،جنتي في الدنيا ونجاتي في الآخرة.
فأمي امرأة لا كالنساء……وإنسانة لا كالآخرين…..أمي شعلة من الذكاء وكتاب من النبوغ وسحر من العبقرية والحيوية والإبداع، لها في كل سطر في حياتها كفاح……وفي كل كلمة من وجودها نضال…..فأمي إنسانة عادية وغير عادية،دائمة الحركة،تنتقل برشاقة وخفة في جميع أركان البيت كالفراشة المبهجة،لا تكل ولا تمل طوال اليوم،ولا تنام حتى يغفو الجميع،تتدفق سعادة كالبراعم المتلألأة ،بالرغم من غابة التجاعيد التي رحفت على وجهها وخصلة الشعر التي عسلها اللون الأبيض،فهي جميلة الملامح وتبقى أمي من أجمل نساء الكون،هي بدر ساطع،تظهر كنور الفجر،فأمي قبلة الصباح،وروح المساء، وعطر الليل،هي حلوة النفس،راضية الخلق،مشرقة الوجه،مبتسمة الثغر دائما، وديعة النفس،رقيقة الحاشية.
عشت في بيت كانت أمي هي المحور والعمود الأساسي فيه،عشت في بيت كان مثالا رائعا للترابط الأسري، فقد علمتنا كيف نوثق علاقتنا فيما بيننا،وكيف نحب بعضنا البعض، عشت في بيت كبرت أنا وكبر حظي معي،عشت في بيت كنت مدللتهم،تعبدت مع إخوتي الثلاتة في محرب واحد ،فسارت بنا قافلة العلم إلى أعلى المراتب،فتحت عيني على الدنيا لأجد امرأة عظيمة،تعمل جاهدة كخياطة للملابس على ماكينة خياطة موجودة بالمنزل ،لتساعد في التخفيف من أعباء ومتطلبات تحديات الحياة،فواجهت أمي وتحملت صفعات الحياة وخذلانها المتكرر،فياما صمدت أمام أمواج البحر الثائرة، وكان لها أسلوبا خاصا في المواجهة،فقد كانت أمي دائما مبتسمة باسمة في وجه الدنيا المتقلبة،فابتسامتها بلسم ناجع ودواء نافع يطرد الحزن والألم، فأمي راضية مرضية،تحزن مع الحزين وتشكو همها لوحدها،وحتى وإن حزنت فلأمي طقوس مقدسة في الحزن،فقد كانت أمي تركن الألم بين جدار صدرها وقلبها،ولا تدع الحزن يستولي عليها وينال منها،ولا تسمح للحزن ان يقتل ابتسامتها،فأمي لا تنتظر السعادة حتى تبتسم،وإنما تبتسم حتى ترى السعادة،وكانت أمي تمسك دائما بمفتاح الصبر،فلأمي صبران، صبر على ما تكره وصبر على ما تحب،فالدهر أدبها ،والصبر رباها،والقوت أقنعها ،واليأس أغناها،فأمي أمينة مؤمنة،قانعة قنوعة،كاتمة كتومة،وافية وفيةموفية.
وبالرغم من قساوة الحياة التي عاشتها أمي، تبقى القسوة هي جزء من رأس مالها،أبت إلا أن تكون المشعل الذي يبدد كل الظلام،لتعيش على ذكريات ساطعة،ذكريات كانت عبارة عن شريط مصور بالألوان وليس بالأبيض والأسود، فقد أحبت كثيرا تلك الفترة،أحبت لياليها، أحبت درجة الإحساس العالي لكل لحظة من لحظاتها،أحاسيس الجوع والشبع والري والعطش،و الهمود والخوف،نعم فأمي كانت تخاف من المستقبل،لأن المستقبل لا يخضع لقوانين ثابتة ولا يتفق مع الكم والكيف ولا يفسر بالإستقراء أو الإستدلال،إنه الشيء الوحيد الذي دفعها للاستمرار في مواجهة مصاعب الحياة بكل صبر واصطبار،فقد غفلها العمر وكبرنا دون أن تنتبه للزمن،كانت أمي دائما تخاف من زوال اللمة،لمة الفطور، لمة الغذاء،لمة العشاء وحتى اللمة على كأس الشاي.
عشت مع أمي الحياة في أجمل صورها،وأبهى حللها،فشمسي دائما مشرقة بوجودها، لقد وجدت نفسي أخذت النصيب الأكبر من أمي،فقد عشت ولا زلت أعيش معها ،أتمتع برضاها صباح مساء،أغتنم،لحظة بلحظة وجودي معها،فأنامستشارتها
وحبيبتها المغنجة،أميل عليها أناولها حزني،فتناولني ركبتها لأدع دمعي ينسكب فيضا من البوح المؤلم،فقد كان الخوف يلتهمني انا أيضا منذ صغري ، الخوف في أن أفقد أمي، وحتى الخوف من أن أكبر،ويا ليتني ما كبرت،وأضحيت طفلتها
الصغيرة التي فقدتها في ممرات ودروب الحياة،فتاهت ،وأثقل كاهلها بالمسؤولية،ووضع على عاتقها مصاعب الدنيا،فحقا كبر سني لم يناسبني بتاتا.
لكن رضى أمي ودعوات أمي وابتسامة أمي تجعل الحياة تستسلم لي فيتوه مني كل الحزن،فدعوات أمي تلاحقني أينما ذهبت وتعثرت،ونصائحها دائما ترن في أذني،فهي مرارا تحدثني عن السعادة التي أجدها عندما أواجه قسوة الحياة بشجاعة،فهي دائما تذكرني باللحظات العصيبة التي مرت بي وبها،وأي باب أغلق في وجهي،ووجدت صعوبة في
فتحه ،فلربما أجد وراءه ما كنت آمل وأحلم به،فهي دائما تنصحني ان لا أعاند الدنيا لكي لا أتألم،ولا أتحدى الظروف لكي لا أتعب،ولا أكف عن تكرار محاولة فتح كل الأبواب الموصدة
وأن أزرع بذور المحبة،بين الممرات،والأطفال وحتى الأشجار و…وأفرش الورود والندى بين القلوب،وأحمل معي دائما مفتاح السعادة،وأكون صادقة لا جارحة،مبتسمة لا واجمة،وأبتسم لكل العابرين في طريقي،فأمي دائما تقول لي أنت جميلة حينما تبتسمي،وارد عليها لست أكثر جمالا منك،مرددة دائما على مسامعي: ابتسمي يا ابنتي،ولو كنت في عز سقوطك لتجعلي الحياة تركع أمامك ،صدق كلام أمي وخسئت الدنيا وما فيها.
مودتي ومحبتي وفاء العنزي
،وأن
الموصدلموصدة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى