سلايدرمقالات

الدكتور كمال عبدالباقي يكتب ” اللقاء الأخير

 

   

اللقاء_الأخير

                                              بقلم الأستاذ الدكتور/ 

                                              كمال عبد الباقي لاشين

(1)

         كان لقَائِي بأخي المرحوم محمد_جاهين_بدوي ، على سَرِيرِ مَرَضِه ، بعدَ سنوات طِوَال فرَّقَ فيها بينَ جسديِنَا الاغْتِرابَ – لقَاءً حَافِلاً بالمعاني ، والعواطف الإنسانية . دخلتُ عليه ، وعنده طبيبةٌ تقِيسُ ضَغْطَهُ ، فوقفتُ بحيثُ لا يَرَانِي . فلما خرجت الطبيبةُ ، التفتَ إليَّ ، وكأنما كان مستيقظا من نومٍ طالَ فبَدَا للحظة وكأنه لم يعرِفْنِي ، ثم استجمعَ نفسَه ، فعَرَفَنِي ، وابتسمَ لي . فصافحته ، وقبَّلْتُ جَبِينَه ، ودعوْتُ لهُ بتمام الشفاء .
      كانَ مضْطَجِعًا على شِقِّهِ الأيْسَر، فلما جلستُ على كرسِيّ بإزَائِه ، وبدأْتُه بالحديث استوى جالسًا على سريرِه ، وأقبل عليَّ ، فقلت له : إنْ كان جلوسك يشُقُّ عليكَ ، فابْقَ مضطجعًا كما كما كنت ، فنظرَ إليَّ ، وكأنه يقول بلسال الحال لا بلسان المقال : لا أكلمك إلا ، وأنا جالس  ؛ فأنا أسن منه ، وأتقدمه بعدة دفعات . حدثني عن مرضِه كيف بدأ ؟ ، وعمَّا قالَ له الأطباء ، وعمَّا قالَ لهم .وحدثتُه أنَا عن التلعُّق بالأمل ، وعمَّا ينتظرُه – إن شاء الله – من تمام الشفاء ، والعافية ، وعن تحصيل أجرالرضا بالقضاء ، والصبر على الابتلاء ، ولم أكن أحدِّثُه إلا بما يعلم .
      وكنت قد عزمتُ قبلَ الدخول عليه أن تكون هديَّتِي إليه ، وما أترُكُه له من ورائي : أن أبُثَّ فيه جذْوةً من روح الأمل ، وحبِّ التعلق بالحياة ، وهل يحتاج مَن أنْهَكَه المرضُ إلى أكثرَ من هذا؟ .وعلى هذا بيتُ حديثي إليه من أول اللقاء إلى آخره . وقلتُ له فيما قلتُ : الشفَاءُ من الله ، ثم منك ، ومن الطيب . فأما الذي من الطبيب فأن يصف لك الدواءَ النَّاجِعَ ، وأما الذي منكَ فأنْ تعينَ الطبيبَ والدواء ، وأنْ تكون صُلْباً في مواجهَة الدَّاء ، واثِقًا من مَعَّيِة الله لكَ ، وقربِه منكَ ، وإقباله عليك في وقتِ الابتلاء هذا.

(2)

     وكان منْ أول ما بدأْتُه به من الحديث أني قلتُ لهُ : كذَبَ والله مَنْ قالَ : إن الشعراءَ لا يشِيخُون ، ولا يمرضُون وأنا قائلُ هذا . وهي عبارةٌ مجازِيَّة كنتُ أمَازِحُ بها خاصَّةَ إخواني ممن يتَعَاطَوْن قولَ الشعر ، ومنهم جاهين نفسه ، ولم أَعْنِ أن أحدا فوقَ الشيخوخة والمرض ، وإنما عنَيْتُ أن قَرَائِحَ الشعراء لا تَشِيخُ وإن شَاخُوا هم ، وأنها لا تمرَضُ وإن مَرِضُوا هم ، فابتَسَم لقَوْلِي وكأنه تذكَّرهُ ، وما كانت غايتي إلا أن أدخل عليه البسمة ، وقد فعلتُ .
        كان داءُ الكَبِد الدَّفِين قد بلَغَ من الرجل ميْلَغَة ، وضَعْضَعَ من بنيانه الجَسَدي ، والنفسي ما ضَعْضَعَ ، ونسخَ من عزائِمِه القديمة التي كنتُ أعرفها فيه ما نسخَ ، وكان قد بلغني عنه هذا قبل أن أذهبَ إليه ، ولكن ما رأيتُه كان فوقَ ما توقعتُه . كان قد ماتَ من جاهين ساعتَها وهو حي أنْفَسُ ما كان فيه ، وسأحدثك عن هذا .لم يكن هذا هو جاهين الذي عرفتُه قديما ، وطويلا ، ولكن آخر يشبِهُه . وأشهد أنه مع هذا كان متعلقا ببقية حياة ، فحدثني عن ديوان له جديد ، وبحث له لم ينشر يُعِدُّ لطبعهما .

(3)

        كان في هذا اللقاء الأخير من اللطْفِ الخفِي ، ومن تقدير الله اللطيف ما فيه . فحين علمتُ أنه في المستشفى – وكان ذلك من نحو شهرٍ- عزمت على الذهاب إليه دون إبطاء ، فقيل لي : إنه في العناية المركزة ، وإن زيارته ممنوعة، فانثنيتُ عن زيارته . وحين علمتُ – بعد مدة طالت – أن زيارته متاحة الآن صرتُ غير قادر على زيارته : كانت قدمي اليسرى قد التَوَتْ ؛ فلزمتُ الفراش بأمر الطبيب ، وصرتُ غيرَ قادرٍ على المشْي إلا بمشقَّة ، وبعصا في يدي أحمِلُها وتحْلِمُيِ .

 ثم صرتُ قريبا من المستشفى لأمرٍ عرضَ لم يسعني تأجيلُهُ ، فقلتُ لنفسي اليوم وجبت زيارة جاهين ، وعلى هذه الحال ذهبتُ إليه رحمه الله في ذلك اللقاء الذي كان الأخير ، وما كنت أحبُّ أن يكون الأخير .وكان من أعجب ما في ذلك اللقاء أني ذهبتُ لزيارته في وقتٍ تُمْنَع فيه الزيارة عادة: كانت الساعة العاشرة إلا الربع تقريبا من صباح يوم الأحد ، وهو الوقت الذي تمنع فيه الزيارة لمرورالأطباء على المرضى واعطائهم فيه أدوية الصباح ، ولكن أحدا لم يستوقفني .

 ولم يقل لي أحدٌ إن الزيارة الآن ممنوعة ، بل إن الطبيبة التي وجدتُها عنده حين دخلتُ لم تكلمني في هذا وخرجت وتركتني وكأنها لمْ ترَني، وأعجب من هذا أني بقيتُ مع جاهين وجدنا ساعة ويعضَ الساعة تقريبا لم يدخل علينا أحدٌ ، ولم يستعجلني في الانصراف أحدٌ ، فعلمتُ أن هذا اللقاء كان فيه من حُسْنِ تقدير الله لي ولجاهين ما فيه ، فقد كانت أجسادنا بسبب الغُرْبة لم تلتَقِ قبل هذا اللقاء نحوا من عشر سنوات

(4)

     . وكان مما قالَه لِي في ذلك اللقاء : عُمْرِي الآن 55 عاما ، فقلتُ له : وما خمسةٌ وخمسون يا أبا شادي ، وعُمْرِي أنا الآن 67 عاما ، وها أنذا أمامك منتصبًا كما ترى، فأنتَ محتاجٌ إلى أن تعيش أعواما عديدة حتى تلحق بي إن كنت لا حقًا . ونظرت إلى العصا بيدي وقلتُ له : ولا تغُرَّنَّك هذه العصا التي أحْمِلُها ، وتحْمِلُني ، فإن لي فيها مآرب أخرى . فابتسمَ ،وما أردتُ بهذا إلا أن يبْتَسِمَ .
وكان لنا إخوان في الأزهر تخَطَّفَهُم الموتُ وهم في أواخر الشباب ، أو في أوائل الكهولة ، وأواسطنا ، ولنا شيوخٌ مُعمَّرُون تخَطَّاهم الموتُ حتى نَيَّفُوا على الثمانين ، والتسعين ، وكنا إذا ذَكَرْنا هؤلاء في مِزَاحِنَا قُلنا : هؤلاء الذي نسيَهُم الموتُ ، أو ضلَّ الطريق إليهم ، وحَلَّ بغيرِ وَادِيهم .

 والموتُ لا ينْسَى ، ولا يضِلُّ طريقَه إلى أحد من الأحياء ، ولكنها فَوْرةُ المِزَاح . فقلتُ له : أتذكر مشايخَنا الذين كنا نقول عنهم : إن الموت نسيهم ، أو ضل الطريق إليهم ، وحلَّ بغير واديهم ؟ ما أراك إلا ستكون واحدا منهم إن شاء الله . فابتسَمَ ابتسامةً غيرَ مكيَمِلة وكأنه تذكر ما كنا نقولُه في تمازُحِنا ، لكنه بدَاغير مصدق لما أقول .كان هذا جزءً من بَاقَة الأمل ، وحُبِّ الحياة التي أردتُ أن أتركها لجاهين بعد انصرافي من عنده . قلتُ ما قلتُ ، وما كنت أدري ، ولا كان هو يدري أن الموت ساعتها كان واقفا له بالمرصاد عند باب الغرفة . 
رحمك الله يا أخي . 

(5)

 

       كان جاهين – رحمه الله – من أنْبَهِ من عرفت من إخواننا في الأزهر ، إن لم يكن أنبَهَهُم على الإطلاق : كان حادَّ الدكاء ، متَوَقِّد القريحة ، حاضرَ البديهة ، وكان فوقَ ذلك كله غزيرَ الشاعرية ، مليحَ العبارة ، حلوَ الإشارة ، مصيبَ الرأي ، صادقَ اللهجة ، لمَّاحا ، مرِحًا . وكان يُعرف ذلك كله ، وأكثرُ منه في حدة ناظرية إذا حدثك ، وفي بريق عينه إذا كلمك .                            فلما زرتُه تلكَ الزَّوْرة الأخيرة لم يكن في عينية شيءٌ من ذلك كله إلا قليلا . كانت عيناه فا ترتين ، منكسرتين ، ليس فيها ذلك البريق واللمعان القديم الذي كنت أعرفه ويعرفه غيري من خاصة إخوانِه ، كان وكأنه قامَ لتوِّه من رقاد طال جدا ، وكأنه كان يدرك هذا من نفسه ، فكان يكلمني وهو ينظر إليَّ تارة ، ويكلمني وهو ينظر إلى موضِعِهِ من السرير تارة أخرى ، وكان نظرُه إلى موضعه من السرير أكثر من نظرِه إلي ، ولم يكن هذا حاله معي من قبل . 
                                                (6)

كان قد مات من جاهين – رحمه الله- ساعتَها – وهُو حي -أنْفَسَ ما كانَ فيه ، وهذا ما سأحدثك عنه لاحقا نعم . كان قد ماتَ من جاهين – رحمه الله – وهو حيّ أنْفَسُ ما فيه : ذكاؤه ،ُ وذَاكِرَنُه . ولقد بقي نحوا من خمس دقائق ، أو يزيد بعنصِرُ رأسَه بين راحنيه ، يريد أن يتذكَّر اسمَ “الأشعة” التي عمِلُوها له في المستشفى ، فلم يستطِع . وقد أشفقتُ عليه ، فذكرتُ له ما أعرفه من أسماء “الأشعة” ، فلم توافق ما في رأسه ، وحاولت مرة أخرى أن أثنيه عن الاستمرار في التذكر ، فلم يستجِب لي . وحين عجزَ عن التذكر نظر إلي ،َّ وبسطَ يدية كالمتعجِّب من تفسه ، وقال : الذاكرة لا تسعفني ، فلم أزدْ على أن قلتُ له : هوِّن عليك ، فما أكثر ما يحدث هذا ، وكانت هذه من أصعب اللحظات التي مرت علينا في ذلك اللقاء وحين هممتُ بالانصراف قلتُ له : سأتصلُ بك لاطمئنَّ عليك ، وأخرجتُ هاتفِي لاستوْثقَ من أرقامه عندي . فقال عن أحد رقميه عندي: هذا رقمي في السعودية ، قلت وهذا : قال وهذا رقم قديم . ثم مدَّ يدهُ إلى هاتفه ، وقال : ” الأولاد جابوا لي رقما جديدا ليطمئنوا علي ” ، قلت له : فأعطنيه ، فبقي يمرِّر أصابعه على هاتفه بضع دقائق لا أدري كم كانت ، ولكنها كانت عليَّ طوبلةً ، فلم يتمكن من إعطائي الرقم ، ولا أدري لماذا ؟، ولكنه كان كمن يبحث عن شيء فلا يهتدِي إليه . فقلت له : فخذ أنت رفمي فلم يتمكن من تسجيله على هاتفه ولا أدري أيضا لِمََ ؟! ، ولكنه كان كمن يحاول فعل شيء فلا يستطيعه .ولما أشفقتُ عليه مرة أخرى قلت له لا عليك ، سآخذ رقمك من أحد صاحبيك : د. عبده إبراهيم ، أو د. السيد أبوشنب ، وكانت هذه أيضا من أصعب اللحظات التي مرت علينا في ذلك اللقاء. 

(7)

     وعلمت بعد موته عقب هذا اللقاء بيومين أنَّ قدر الله كان أغلبَ ، وأنه كان قدِّرَ لنا أن يكون كلامي معه في ذلك اللقاء الأخير آخر كلام يكون بيني وبينه . وحدثني جاهين طويلا – رحمه الله -عن مرضه ، وعما قاله له الأطباء : قال : قالوا لي إن أحد “فَصَّي” الكبد سليم ، والآخر معطوب ، وإن هذا المعطوب يحتاج إلى استئصاله ، أو استئصال جزء منه ، وإنه لا بد من الانتظار لبعض الوقت حتى تسمح الحالة الصحية العامة بهذا،وإنهم منقسمون فيما بينهم في جدوى ، وإمكانية الاستئصال . 
قال : وقالوا لي بعدها : إن الكبد أمره مستقر الآن ، ولكن “الكلى” تضررت كثيرا من الدواء الذي أخذته ، وإن نسبة “الكرياتين ” قد ارتفعت ، وإنهم يبحثون الآن لِمَ ارتفعت نسبة الكرباتين ؟ ، وإنهم استعانوا بطبيبة من خارج المستشفى لمتابعة حالة الكلى ، وإن هذه الطبيبة هي ابنة المهندس حسب الله الكفراوي .
كان كمن يريد أن يسترسل في حكاية مرضه ، وكان يتوقف أحيانا كمن يتذكر شيئا نسيه ، ثم يصل الحديث من حيث توقف ، وربما وصله بكلام ليس من جنس الكلام الأول ، فاستمعت إليه بانصات ، فلما فرغ لم أزد على أن قلت له : يكون هذا وأكثر منه يا جاهين ثم يأتي الله بالصحة ، والعافية .       
        وقلت له : لعلك تأخرت في العلاج حتى اشتدّ الأمر . قال : نعم ، وأنا بطبيعتي من المسوفين ، وما كان قد كان . وأردتُ أن أخرجه إلى حديث آخر فقلت له : هذه جناية الإعارة ، وضريبتها يا صديقي : أعطتنا المالَ ، وأخذت منا الشباب ، والصحة ، وهذه يتلك ، والغُرْمُ بالغُتْمِ كما يقولون . 

(8)

     وأردتُ أن أُسَرِّي عنه ، وأن أخفف عنه بعض ألمه ، فقلت له : لعلك لا تدري أني أنا أيضا رجعتُ من الإعارة سنة 2003 مريضا مرضا شديدا ، وأني قطعت الإعارة قبل نهايتها يشهر ، أو شهرين ، وأني بقيت بعدها مدة من الزمن ليست بالقصيرة لا استطيع الجلوس إلا وحولي وسائد كالصبي أول ما يتعلم الجلوس ، وكان ذلك لداء ألم بفقار الظهر ، وأعصابه ، ثم جاء الله بالشفاء ، وهأنذا أمامك كما ترى .وقال لي أبضا : قد قلت للأطباء : إني أريد قضاء العيد في بيتي ، ومع أولادي . فقلت له : ليس منالحكمة أن تتعجل الخروج قبل تمام الشفاء ، وعيدك ، وعيد أحبابك جميعا ، وأنا منهم يوم تخرج إلينا سليما معافى .
  وأردت أن أمازحه فقلت له : إن كنت ستخرج للحم الأضحية ، فأنا آتيك بما شئت منها . اختر ما شئت ونحن نأتيك به مشويا ، أو مقليا ، أو ما أحببت. فابتسم ابتسامة رضى . 
كان هو يريد أن يقضي العيد في بيته وبين أهله ، وكنت أريد له أن يقضي العيد قريبا من رعاية الأطباء ، وكانت إرادة الله أن يقضي العيد بين أطباق الثرى في قريته بريف الشرقية مع أحبة له سبقوه إلى هناك . وتحدث جاهين في ذلك اللقاء عن ولده الطبيب : شادي ، وأطالَ الحديث عنه . 

(9)

      وكان مما قاله لي في ذلك اللقاء : لقد أردتُ على أن يكون أول أولادي ذكرا ؛ ليخْلُفَنِي ، وليأخذ مكاني بين إخوته من بعدي ، وهممت بأن أقول له : إنا لا نأتي بأبنائنا على ما نحب ونرضى ، وإنما يأتي بهم الله على ما يحب ويرضي ، وأن أقول له : إن الله هو خليفتي وخليفتك من بعدنا في أهلينا وولدنا ومالنا .
وقال: إن شادي مجنَّد الآن في الجيش ، وإنه يتحَيَّن كل فرصة سانحة ليأني لزيارتي ، أو ليتصل للاطمئنان علي – وقد اتصل به بالفعل وأنا عنده- ، وقال : إنه فكر في أن يترك مكانه في الجيش ليكون على مقربة مني في هذه المحنة ؛ لأن بعده عني وأنا في هذه الحالة بشُقُّ عليه جدا ، وقال :إنه أخذ أشعتي وتقاريري وعرضها على أحد كبار أساتذته في جامعة القاهرة ، وعلى آخر في جامعة عين شمس . وأن أحدهما قال شيئا ، وقال الآخر شيئا آخر .كان يريد أن يسترسل في الحديث عن شادي وكان كمن يتلذذ بالحديث عنه ؛ فتركته بسترسل ، وأعطينه كل سمعي

  . ……كنت أعلم قبل هذا شدَّةَ تعلقه بشادي ، وإعجابِه بنباهته ، وشدة تأْمِيلِه فيه ، وكان هذا يظهر في بعض ما كان يكتبه عنه على صفحته في مناسبات عدة . ولكني لم أفهم إلْحَاحَه في الحدبث عن شادي ، وبعض ما قاله عنه في ذلك اللقاء إلا بعد أن جاءني نعِيُّهُ .
                                              (10)

    كان كأنه يستشعر في تلك الساعة دُنُوَّ أجَلِه ؛ فكان بتلذذ بالحديث عن شادي .ولعلها من آخر كلام تحدث به عن ولده ، فقد ذكر لي صديقه المقرب منه . د. علاء جانب – ولم أكن أعلم- أنه – رحمه الله – دخل في غيبوبة بعد أن تركتُه ، ولا أدري متى بدات غيبوبته؟ ولا كم طالت ؟ .
    كان كأنه يستشعر في تلك الساعة أنه سيسلِم راية الأسرة لشادي عما قريب ، ولهذا قال عته ما قال . 
هذا . ونحن في هذه الحياة كالجنود في المعركة ، يحمل الراية من يحملها فإذا سقط حملها غيره : حملْنا الراية بعد آبائنا ، وحملوها هم بعد آبائهم ، ويحملها أبناؤنا من بعدنا ، وتلك هي معركة الحياة إلى أن يأذن الله بزوال الدنيا . …وحدثني جاهين في ذلك اللقاء عن ديوان شعري جديد له ، وعن بحث علمي فرغ من كتابته . وقال : لقد أعددتُ ديوانا جديدا : جمعتُه ، ورتبْتُه ، وضبطهُ بعناية ، ثم التفت إلي وقال : وأنت تعلم شدة عنايتي بضبط الشعر . قلت : أعلم . وهممتُ بأن أقول له : وأعلم أيضا أن الشعر ابن الإنشاد إذا استُمِعَ إليه ، وابن الضبْط الدقيق إذا كُتب أو قُرئ .
      ورسالتي إلى الابن العزيز شادي أن بشْرَع – حين تهدأ أحزانه قليلا – في طباعة ذلك الديوان ، وذلك البحث ، وأيَّ شيء آخر ذي قيمة كتبه والده ؛ فإن ذلك من أعظم أبواب بِرِّه به بعد موته . كما أدعو صاحبيه القريبين منه كانا : د. عبده إبراهيم ، ود. السيد أبو شنب أن يكونا عونا لشادي في هذا ، وأنا عوْنٌ لهم إن أرادوا ؛ فإن علم جاهين وشعره مما يقبُح إهمالُه وتركُه .

 

(11)

 . رجلان من خاصَّة إخواني في الأزهر كان فقدُهما أشَدَّ عليَّ من فقد كلِّ أحدٍ – خلا أبي وأمي رحمهما الله – : الأول : رجب إبراهيم خليل الذي زاملني في الدراسة العالية بكلية اللغة العربية بالقاهرة ، وتقاسمنا الطعام والشراب في مسكن واحد مدة من الزمن ليست بالقصيرة ، ثم كان موتُه بين يدي ، وكانَ أوَّل موت رأتْه عينَايْ- رحمه الله – .
    والآخر: محمد جاهين الذي كان من أقربَ إخواني بالأزهرإليَّ ، وأشبَهَهُم بي – والنفوس نتقارب حين تتشاكل ، وتتباعد حين تتنافر – ثم كان موته بعد لقائي به بساعات ، وهو لقاء كان قد سبقه فراق الأجساد لسنوات طوال . ذلك اللقاء الذي ما كنت أحب ألا يكون ، مع أنه ترك لي كمدا دفينا ، وحزنا طويلا . ……مات رجب إبراهيم شابا من نحو خمس وثلاثين سنة ، مات وهو أرْجَى ما يكون للعلم والأدب ، ومات محمد جاهين كهلا وهو أرْجى ما يكون للعلم والشعر .و
كلاهما كان بحر ألْمَعِيَّةٍ لم يُنْزح ، وبثر فطنة لم يسْتنْزَف ماؤه . وقديما قالوا : الموتُ نقَّاد ، والموتُ يختارُ الجِيَاد .
      وكان مما أثلج صدري في أواخر ذلك اللقاء أنَّ جاهينا كان ساعة تركته أنْشَطَ للحديث ، وأحضر ذهنا ، وانطق لسانا منه ساعة دخلتُ عليه . وقد قلت لنفسي : إن حيلتي التي احْتَلْتُها في بثِّ روح الأمل وحب الحياة فيه قد آتت أكُلَهَا ، وأثمرت ثمرتها .
قلتُ هذا أ وما كنت أدري ولا كان هو يدري أنها كانت صحوة موت ، وأن الله شاءت إرادته أن يكون سرير مرضه هو سرير موته ، وأن الموت كان يترصده عند باب الغرفة (261) بمستشفى المقاولون العرب. 

(12)

      آنَ لي أن أتوقف . ولم أحدثْك في هذا البثِّ النفسِي الذي طال عن علم جاهين ، وشاعريته ، ونفاسة أصله ، وكرم أخلاقه إلا ما جاء عرضا في هذا الحديث ، فذلك باب آخر يطول الكلام فيه ، وإنما حدثتك عن بعض اللفتات الإنسانية التي دارت بيني وبينه في ذلك اللقاء الأخير . 
حدثتك عن هذا كله وفاءً ببعض حق جاهين عليَّ ، ولأني أردت أن أريح نفسي من بعض ما بها ، وما أنا بمستطيع . ولا أجد أخيرا ما أقوله في فقْد جاهين خيرا مما قاله عبدة بن الطبيب في فقْدِ قيس بن عا

عليكَ سلامُ الله قيسَ بن عاصمٍ
                                  ورحمتهُ ما شاءَ أن يترَحَّـــــمَا
وما كانَ قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحد
                                ولكنهُ بنيانُ قـــــــــــوْمٍ تَهدَّمَا
فرحمات من الله تترَى بكرة وعشيا على قبر أنت فيهس يا أبا شادي . 

والسلام عليك حتى ألقاك . (أهـ)   .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى