سلايدرمقالات

د/ زكريا النوتي يكتب فضفضة أدبية معلقات العرب وَنَوَارُ لَبِيْد

فضفضة أدبية

معلقات العرب وَنَوَارُ لَبِيْد

                     أ.د. زكريا النوتي

         الأستاذ في كلية اللغة العربية بالقاهرة 

       والعميد الأسبق لكلية العلوم الإسلامية 

الحلقة الرابعة

 (نَوَارُ لَبِيْد)

 و(لَبِيْدُ) بفتح اللام لا غير، وليست مصغرة (لُبّيْد) كما ينطقها بعض طلابنا.

السؤال الذي يطرحه القارئ المتابع: لماذا أَفردتُ لَبِيْدا ومعلقته، في حين جمعت بين كل معلقتين من المعلقات الست السابقة؟

الإجابة:

أن هذه المعلقة متفردة، لا تربطها بأية معلقة من المعلقات السابقة أية آصرة؛ فهي تدور حول مشكلة لبيد مع (النَّوَار) -كما سنرى- فَلَبِيْد في هذه المعلقة نسيج وحده.

***

 لقد دَرَّسْتُ الشعر الجاهلي على مدى ثلاثين عاما، وتناولت عددا من المعلقات: معلقة طرفة، معلقة زهير، معلقة النابغة، وتطرقت إلى معلقة امرئ القيس.

لكنني كنت أحجم عن معلقة لَبِيْد؛ إذ إن ألفاظها وَعِرَة خشنة، وتضطر قارئها إلى اللجوء لمعاجم؛ اللغة لفك غوامضها .. حتى إن أبا عمرو بن العلاء -وهو مَنْ هو، وقريب عهد بلَبِيْد مع إعجابه الشديد بشعره- يقول عنه: “إن شعره رَحَى بَزْر” أي: خشن غريب.

ويبدو لي أن هذه الخشونة تعكس شخصية لَبِيْد، وحدَّته في التعامل، وكذا الفرزدق، ولا عجب؛ فكلاهما كانت مشكلتهما مع (نَوَار).

وإنك حين تفك تلك الغوامض، وتحل الطلاسم؛ تظفر بمعانٍ رائعة تفرَّد بها لَبِيْد، وتدرك حينئذ أن جهدك لم يضع سُدًى، فقد كنتُ غواصا يبحث عن لآلئ، وهذا أنا قد ظفرت بها:

النوار: محور المعلقة، وقطب رحاها

قبل أعوام قليلة كنت أظن أن (النوار) اسم محمود، أو لقب للمرأة الجميلة خَلْقًا، بيد أني حين بدأت أدرس المعلقة وأحللها؛ فوجئت أن اسم (النَّوَار) ليس كما كنت أظن؛ فهو اسم غير محبب.

فما النَّوَار في المعاجم؟

… نسوة نُوُرٌ: أي تفر من الريبة.. الواحدة نَوَار، وهي الغرور، ومنه سميت المرأة، قال مالك بن زُغْبَة الباهلي يخاطب امرأة:

أَنَوْرًا سَرْعَ مَاذَا يَا فروق

وحَبْلُ الوَصْلِ مُنْتَكِثٌ حَذِيقُ

أراد: أنفارا يا فروق.

وامرأة نَوَار: نافرة عن الشر والقبيح. والنَّوَار: المصدر، والنَّوَار: الاسم، وقيل: النَّوَار: النِّفار من أي شيء كان.

وبقرةٌ نَوَار: تنفر من الفحل، وفي صفة ناقة صالح – على نبينا وعليه الصلاة والسلام-: “هي أَنْوَر من أن تُحلب” أي: أنفر، والنَّوار: النِّفار.

والنائرة: هي المرأة الجاحدة المنكرة، التي تقابل الإحسان بالإساءة، والحب بالبغض، والبذل بالإمساك.

وفي بعض الدول العربية يطلقون (النَّوار) على المرأة: المناكفة، المشاكسة، النَّفور.

***

وهناك أكثر من نَوَار، وأشهرهن:

    • نوار حاتم الطائي، وهي زوجه الأولى، قبل (ماوية)، أنجبت له: عبد الله، عدي، وسفانة.
    • النَّوار ابنة عمرو بن كلثوم.. ولا نعلم عنها شيئا، وأتوقع أنها كانت كأبيها في الكِبر والصلف والغرور، ففي المثل: “كل فتاة بأبيها معجبة”.

 

  • نَوَار الفرزدق:

 

وهي ابنة عمه، تزوجها بحيلة ومكرٍ منه؛ إذ جاءها خاطب كفء من بني عبد الله بن دارم؛ فَرَضِيَتْه، وكان وليُّها غائبا؛ فاضطرت لأن يكون الفرزدق وليَّها؛ فقال: شريطة أن ترضين بما أرضاه زوجا لك.. وأمام حشد من الناس قال: وَلَّتْني النَّوار أمرها، ورَضِيَتْ بمن أرضاه لها.. ثم قال: أشهدكم أني قد زوجتها نفسي على مائة ناقة حمراء..

فذهبت تشكو إلى (ابن الزبير) أمير الحجاز والعراق حينئذ، ولم يستطع التفريق بينهما؛ لتمسك الفرزدق بها.

وأنجبت له ست بنات، هنَّ (لبطة، سبطة، خبطة، زمعة، كلطة، وجلطة)، وهذه الأسماء تعكس شخصية الفرزدق الأب، فلقد كان حقير النفس، جشعا، دنيئا، مجردا من الشجاعة الجسدية والأدبية، فاسقا، خائنا، متقلبا. بينما كانت (النَّوار) ذات دين.

وأما فراقهما فقد ذهبت إلى الحسن؛ ليشهد طلاقها، على أن تبقى أعطياتها له، وألا تتزوج بعده، فقال الفرزدق: يا أبا سعيد اشهدْ أن (النَّوار) طالق ثلاثا؛ قال: شهدنا…

ثم ندم الفرزدق وقال:

نَدِمتُ نَدامَةَ الكُسَعِيِّ لَمّا

غَدَت مِنّي مُطَلَّقَةٌ نَوارُ

ولو أني ملكتُ يدي وقلبي

لكان عليّ للقدر الخيارُ

وَكانَت جَنَّتي فَخَرَجتُ مِنها

كَآدَمَ حينَ لَجَّ بِها الضِرارُ

وَكُنتُ كَفاقِئٍ عَينَيهِ عَمدًا

فَأَصبَحَ ما يُضيءُ لَهُ النَهارُ

 

 

  • نَوَار لَبِيْد:

 

لا ندري ما العلاقة بينهما، هل كانت زوجا، أم حبيبة، وهل كان (النَّوار) اسما، أم وصفا لها؟؟

لقد حاول لّبِيْد في معلقته إغفال النوار؛ فلم يذكرها إلا في البيت (16) يقول:

بَل ما تَذَكَّرُ مِن نَوارَ وَقَد نَأَت

وَتَقَطَّعَت أَسبابُها وَرِمامُها

إلى أن يقول في البيت (20):

فَاِقطَع لُبانَةَ مَن تَعَرَّضَ وَصلُهُ

وَلَشَرُّ واصِلِ خُلَّةٍ صَرّامُها

وَاِحبُ المُجامِلَ بِالجَزيلِ وَصَرمُهُ

باقٍ إِذا ضَلَعَت وَزاغَ قِوامُها

أكثر النقاد والدارسين صدقوا لبيدا فيما قال، من أنه قابل هجرها بهجر، وصدَّها بصد.. وأن الذي يفعل ذلك هو الرجل حقا: يحسن الوصل حين يتاح الوصل، وقدر على الهجر حين لا يكون من الهجر بُدٌّ.. هكذا قال د/ طه حسين، وغيره.

وأنا لا أرى ذلك:

فالحبيبة ليست كصاحب أو صديق، يجري عليها ما يجري عليهما.. صَدٌّ وهجران يقابله صَدٌّ وهجران؛ ذلك أن الحبَّ لا يكون بالعقل، وإنما بالقلب.. وللحب حسابات أخرى مختلفة، أنه أمر قدري.

 

تأمل قول الشاعر:

تَعلَقُ رَوحي رَوحَها قَبلَ خَلقِنا

وَمِن بَعدِ ما كُنّا نِطافا وَفي المَهدِ

وقول الآخر:

يلومونني في حُبُ سَلمَى كأنما

يَرَونَ الهوى شيئا تَيَمَّمتُهُ عَمدا

ألا إِنَّمَا الحب الذي صدّع الحشا

قضاء مِنَ الرَّحْمَن يبلو به العبدا

وقال ابن المعتز:

الحبُّ داءٌ عياءٌ لا دواء له

تضلُّ فيه الأطباءُ النحاريرُ

قد كنتُ أحسبُ أنّ العاشقين غَلْوا

في وصفه فإذا في القوم تقصير

 

يبدو لي أن مَنْ ذكر موقف لبيد بأنه صد وهجران.. لم يجرب الحب؛ فمن ذاق عرف!!

وإنك لترى في مجتمعاتنا امرأة مناكفة، مشاكسة، نفورا، جاحدة، وزوجها لا يستطيع أن يبادلها تلك الصفات في معاملاته.

بل إن تلك النَّفور قد تكون شعلة للحب، ولذا قال عروة بن الورد:

يَعافُ وِصالَ ذاتِ البَذلِ قَلبي

وَيَتَّبِعُ المُمَنَّعَةَ النوارا

 

قد يحدث صراع بين القلب والعقل، والغلبة تكون للقلب غالبا.

هذا ما أراه في موقف لبيد بالمعلقة.. لقد حاول أن يتجاهلها فلم يذكرها إلا في البيت (16) غير أنها متمكنة من قلبه، مهيمنة على فؤاده، مهما حاول إخفاء ذلك.

واقرأ معي هذه الحكاية:

بينا عمر بن الخطاب يطوف بالبيت إذ رأى رجلا يطوف، وعلى عنقه مثل المهاة، وهو يقول:

عدت لهذي جملا ذلولا

موطأ أتبع السهولا

أعدلها بالكف أن تميلا

حذر أن تسقط أو تزولا

أرجو بذاك نائلا جزيلا

فقال له عمر: يا عبد الله، مَنْ هذه التي وهبت لها حَجَّك؟ قال: امرأتي، يا
أمير المؤمنين؛ إنها حمقاء مِرْغامة، أَكول قامة، ما تَبْقى لها خامة!

 قال: ما لك لا تطلّقها؟ قال: يا أمير المؤمنين، هي حسناء فلا تُفْرَك، وأُم
صبيان فلا تُتْرك قال: فشأَنك بها إذا.

ويلاحظ أن الرجال الذين تزوجوا من (النوار) معظمهم -ثقال الدم- وهذا الصنف من الرجال تزهد فيه المرأة، مهما كان نسبه وحسبه وثراؤه.

فالفرزدق ولبيد أبرز من اتصف بتلك الصفات.. ومن ثم تأبَّت عليهما (النوار)، ولبيد يشعر بذلك، ومن هنا راح يتحدث عن مسامرته مع الندماء، ويقول: إنه بينهم نجم، وطيء الأكناف، يستمتعون بأحاديثه العذبة، وكرمه الفياض.

كيف يرونني كذلك؟ وأنت الوحيدة ترينني (ثقيل الدم) غير مألوف!!!

وقد اتخذ من الأتان معادلا موضوعيًّا لـ(النوار)؛ فالأتان نسيت الماضي السعيد مع الحمار، وهي تحاول الهرب منه؛ لتظفر بحمار آخر.. 

إنه الجحود والكفران الذي أشار إليه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه ابن عباس قال: قال – صلى الله عليه وسلم-: “أُرِيْتُ النار؛ فلم أَرَ منظرا كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بكفرهن. قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط”. البخاري (1052) .. وله روايات أخرى.

شعر لبيد بما شعر به الحمار، وكابد مثلما كابد.. بعد البذل والإحسان والعطاء بلا حدود؛ يكون الجزاء الجحود والكفران.

ويعود لبيد ثانية في البيت (55) ليقول: 

أوَلـم تـكـنْ تـدري نَـوَارُ بـأنَّني

وَصَّـالُ عَـقْـدِ حَـبَـائِـلٍ جَـذَّامُـها

تَـرَّاكُ أمـكـنـة ٍ إذا لـم أرْضَـهَـا

أوْ يعتلقْ بعضَ النفوسِ حِمامُها

 

والحقيقة أنه لم يَعُدْ؛ لأن النوار لم تفارقه من الأساس، ولكنه يحاول إظهار ذلك. وحين تتأمل ألفاظه تجده متوترا، سليطا، محنقا، (اقطع لبانه – جذامها – صرَّامها– تقطعت – اقطع – ضرامها – وصَّال عقد) هذه الشدات والتضعيف ينبئان عن نفس مكلومة، أصيبت في أحب وأعز إنسان (النوار).

ثم ذهب يفاخر بنفسه موجها خطابه إليها!! وهذا يدل على أنه لم يقابل نفورها بنفور، وكأنه يستجدي حبها؛ فيذكر بطولاته وجوده…

بـل أنـتِ لا تـدريـن كـم مِنْ ليلة ٍ

طَـلْـقٍ لـذيـذٍ لَـهْـوُهـا ونِـدَامُـهــا

وذهب مفاخرا بقبيلته، ولسان حاله يقول: أنتِ الخاسرة؛ فأنا مَنْ أنا، وقبيلتي هي ما ذكرت.

أَبَعْدَ ذلك كلِّه يتأتى أن يقال: إنه صَرَمَها وجفاها، …إلخ.

كلا وألف كلا.. لبيد ما زال يحب النوار، ويتمنى أن لو عادت إليه.. هذا على الرغم من زواجه من امرأة أخرى.. ولكن:

كمْ منزل في الأرضِ يألفه الفتى

وحنينُه أبداً لأولِ منزلِ

نَقِّلْ فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِن الهَوى

ما الحُبُّ إلاّ للحَبيبِ الأوَّلِ

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى