صفحات من التاريخ داود زرینبور

المقاومة الخوارزمية وثبات قطز: من خوارزم إلى عين جالوت
في سجلّات التاريخ الإيراني، لم تنحنِ الدولة ولا الأمة يومًا لِما فُرِضَ عليها قسرًا؛ لا في الحرب ولا في السلم.
ومن أبلغ صور هذه الروح الثابتة، صمود الدولة الخوارزمية، ثم نهوض أمير إيراني منفي في مصر، هو سيف الدين قطز، الذي قاد واحدة من أعظم معارك التاريخ الإسلامي.
الخوارزميون: السدّ الأخير قبل طوفان المغول
مع بداية القرن السابع الهجري، اجتاحت جحافل المغول الأرض من الشرق كالسيل العارم، تبتلع المدن والدول دون مقاومة تُذكر.
لكن دولةً واحدة، الدولة الخوارزمية بقيادة السلطان محمد خوارزمشاه، رفضت الاستسلام لإنذارات المغول، وأجابتهم بعزةٍ فارسيةٍ إسلاميةٍ صلبة، رافضةً صلحًا مذلًا رغم الاختلال الكبير في ميزان القوة.
وبعده، برز ابنه جلال الدين خوارزمشاه، رمز الشجاعة والكرامة الإيرانية، حيث ألحق بالمغول هزيمة نادرة في معركة بَروان، وهو نصر لم يعتد عليه العدو حينها في بداية فتوحاته.
لكن في نهاية المطاف، تدفقت جيوش المغول كالسيل فوق أراضي إيران، فأسقطوا الدولة الخوارزمية، وأسروا أو نفوا أمراءها، ومن هناك انطلقت موجة الغزو نحو قلب العالم الإسلامي، ناشرين الرعب والدمار.
قطز: أمير إيراني نهض من قلب مصر
من بين هؤلاء الأمراء الأسرى، كان هناك طفل يُدعى محمود بن ممدود، ابن أحد الأمراء الخوارزميين، وابن أخت السلطان جلال الدين خوارزمشاه.
سماه المغول “قطز” — ومعناه بالمغولية “الكلب المفترس” — نظراً لمقاومته الشرسة لهم.
بيع في أسواق الرقيق بدمشق، ثم نُقل إلى مصر، وهناك تربى في جيش المماليك، حتى ارتقى عرش السلطنة في القاهرة.
عندما اجتاح المغول بغداد واتجهوا نحو مصر والشام، وقف قطز موقف الأبطال، رفض شروطهم، ومزّق رسالة هولاكو المليئة بالتهديد، ثم جهّز جيشه وخرج للقاء العدو في معركة عين جالوت (658 هـ / 1260 م).
وفي تلك المعركة الفاصلة، ألحق قطز، الأمير الإيراني الأصل، أول هزيمة كبرى بالمغول، وأوقف زحفهم نحو الغرب الإسلامي.
جغرافيا مختلفة، روح واحدة
يمثّل تاريخ قطز رابطًا عميقًا بين المسلمين، ليس جغرافيًا، بل حضاريًا وثقافيًا.
من جذور خراسانية، نهض في قاهرة المعز، ودافع عن بلاد الإسلام. لقد أكمل مسيرة بدأت في خوارزم، مسيرة رفضٍ للخضوع، مقاومةٍ للحرب المفروضة، ورفضٍ لسِلمٍ يُراد به استعباد الأمة.
الخاتمة: التاريخ يعيد العزّة لأصحابها
كان قطز والخوارزميون أبناء أمة رفضت العدوان والهيمنة والإذلال.
بإيمانهم بالله، وبكرامتهم الوطنية، وبإرادتهم التاريخية، صانوا الأرض والعِرض، ووقفوا سدًا منيعًا في وجه الطغيان.
وفي كل منعطف من التاريخ — من خوارزم ونيسابور إلى عين جالوت — كانت الروح الإيرانية الإسلامية حاضرة، واقفة، تقاتل وتدافع.
وهذه الروح، ما زالت حية، تحرس السيادة، وتحفظ الكرامة، وتدافع عن حدود الوطن وشرفه.
اليوم، كما في الأمس، يقف الشعب الإيراني في وجه كل تهديد؛
سواء كان من كيان صهيوني قاتل للأطفال وأتباعه، أو من خلال ضغوط سياسية أو سلامٍ مفروض لا ينطوي إلا على الذل.
الشعب الإيراني ليس من دعاة الحرب، لكنه بالتأكيد ليس من أهل الخنوع والاستسلام.