سلايدرمقالات

حزين عمر ” يكتب” عتابي لمحمود نسيم ،، اتراجع عنة

الهمسُ الصاخبُ والعقل الحكيم .. ارتفعِ

بيني وبين نفسي ، كنت عاتباً على الدكتور محمود نسيم : فقد ألمَّتْ بنا ملمة صحية نجانا الله منها ، ولم أسمع صوته ، بجوار أصوات أصدقاء قلائل وصلهم خبر أزمتنا بدون علمي ..الدكتور نسيم اعتدت أن أراه ــ غالبا ــ بدون موعد ، وأسمع صوته بغير اتفاق مسبق : فجأة ونحن ندخن الشيشة ، ونثرثر بالنميمة ، ونمضغ الكلام ، علي أحد مقاهي القاهرة ، تشرق بسمته الوديعة بيننا ..فأبادره :
ــ من أين أتيت يا دكتور ؟
ــ من أكاديمية الفنون ..
ــ وطبعا سيرا علي الأقدام ، كالعادة منذ عدة سنوات ..
ــ بالتأكيد .. وسأواصل حتى أرض النعام بحلمية الزيتون .
أحيانا قليلة نرتب للقاء بيننا في نادي الشمس ، أو في صالوني الشهري ، أو في دار الجمهورية .. ويمتد حديث الجد كثيرا ، والهزل أحيانا !! فلديه مشروع كتاب عن فن السيرة الذاتية ، ولديه بعض مجلدات أعماله الكاملة بمطابع هيئة الكتاب ، ولديه محاضرات مع تلامذته بأكاديمية الفنون ، والتقى ــ أمس ــ بصديقنا الدكتور شاكر عبد الحميد ، وسلمه نسخة من كتابي ( أزمة وطن .. تجريف الإنسان ) ، ولديه انشغاله بابنتيه ..و .. و..

كنت عاتبا عليه بعدما أفقت من أزمتنا الصحية ــ أنا وابنتي آية ــ ولم تكن اللعين كوفيد 19 ..فهو نفسه سقط ــ كما قال لي ــ في مخالبه ونجا منه منذ حوالي شهر ، وهزم كورونا ، واستأنف تجواله إلى هيئة الكتاب والأكاديمية ، لكنه لم يهاتفني كالأصدقاء القليلين الذين تواصلوا معي ، وأنا أنطق كلمات ــ ردا عليهم ــ بشق الأنفس.
وبيني وبين نفسي ، ظللت عاتبا علي نسيم . ولم يصل إدراكي إلى أنه يستعد لعالم غير عالمنا الزائف : عالم لم يضطهده ، ويمنعه حقه في الترقي إلى درجة مدير عام إدارة المسرح بقصور الثقافة .. على الرغم من أنه وحده يزن هيئة كهذه ، ويزن وزارة كوزارة الثقافة .. ولم يستسلم نسيم ــ لا حبا في موقع هو أعلى منه وممن سيصدر قرار ترقيته ــ بل لأنه يرفض أن ينتزع الموظف ” فاروق عبد السلام ” مدير مكتب وزير الثقافة حينذاك ، حقه هذا .. ويرفع دعوى قضائية .. ولا يجلس منتظرا نتائجها وأحبالها الطويلة ، فيستكمل رسالته للدكتوراه ، ويتقدم للعمل مدرسا بالأكاديمية ، وفيها يطل برأسه ــ من وراء ستائر ــ فاروق ذاك ، ولا يستسلم نسيم ، وينال حقه بالقانون . ويواصل أبحاثه العلمية الرصينة المتفردة في الأكاديمية ، فينال الأستاذية عن جدارة .. وتحمله الأكاديمية أعباء علمية بتدريس عدة مواد في فلسفة الفن بعدة أقسام .. وفي طريقه بعد استقرار وضعه أستاذا ، يصدر حكم أحقيته في منصب مدير عام !!
نسيم لم يكن نمطيا في شئ ، بل زاوية رؤيته في النقد الأدبي ، وفي فن المسرح تعد بصمة تخصه وحده ، وصوته الذي لا تكاد تسمعه هامسا يخترق ذهنك مباشرة ويتجول في أنحائك ويملأ نفسك كأعلى صوت في العالم !! ، وزهده في الشكليات والمظاهر طوال عمره يقابله تحصيل علمي دءوب ، واجتهاد فكري واضح ، وعطاء شعري ثرٌّ وعميق يضيف كثيرا بدون دعاية وحذلقات لفن الشعر العربي ..
نسيم الذي امتلك رؤية بعيدة المدى للحياة الوطنية ، والذي لم يتخلف عن فعل ثوري يؤمن به : ثورة 25 يناير ، ثورة 30 يونيه … حتى الأحزاب اليسارية السرية التي حدثني عنها كثيرا مع رفاق له ، منهم عماد أبو غازي ، نسيم الذي كان واحدا وجماعة ، فردا وشعبا ، همسا صاخبا ، عمقا لا يدرَك ، ورقيا يُخجِل خصومه ، كان منشغلا عن التواصل معي بعالم أجمل ، أرحب ، أصدق ، أعدل ، أخلد .. وهل عشت يا نسيم إلا لهذه المفاهيم ؟؟!!
لم أعد الآن عاتبا عليك ، بل على نفسي .. فما تمكنت أنا وأكثر محبيك من إلقاء ” نظرة الخلود ” عليك .. عليك رحمة ومحبة إلى أن نلتقي قريبا . لأن الدنيا تضيق بنا ، ونحن بها نضيق !!
لقد بادر صديقنا الناشر المثقف الوطني الزاهد فتحي هاشم ــ صاحب جزيرة الورد وابن بلدك ــ واتفق معك سرا علي الرحيل المشترك في اللحظة نفسها .. وانسحبت نفساكما الطيبتان من عالمنا الجائر المدلهم !! حزين عمر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى