سلايدرمقالات

المفكر الكبير حزين عمر يكتب ” هذا يوم تاريخي وجغرافي أيضاً

..” وقد بحث جلالة الملك وفخامة الرئيس وسمو الأمير التعاون المشترك ، وأكدوا عمق ومتانة العلاقات التاريخية التي تربط بلادهم ، واتفاق وجهات النظر حول سائر القضايا ذات الاهتمام المشترك , و…و … ” هذا ما نخرج به ــ كصحفيين ومتابعين ــ من اية اجتماعات بين حكام الدول : كلام إنشائي جاهز و” كلاشيه” لغوي تُصَب داخله أخطر القضايا وأتفهها !! ثم ــ وبعد إلحاح ــ يتفضل المتحدث باسم المملكة أو الرئاسة أو الإمارة بإضافة جملة حول ما حدث فعلا من اتفاقات واختلافات ونقاشات : ساخنة صيفا ، باردة شتاءً ، معتدلة في الربيع !!
ومع امتلاء سماوات البث بمليارات المفردات المنطلقة كل ثانية ، بمئات اللغات العالمية عبر التليفزيون والراديو والسوشيال ميديا ، تصرُّ الجهات الدبلوماسية في أكثر الدول ــ وخاصة التي لا تمر الشفافية والمصداقية علي عتبات حكامها !!ــ تصر علي ” تثليج ” اللغة ،ثم ” تجميدها ” ثم ” تعليبها ” ، في هذه القوالب المحفوظة من البيانات الرسمية التي فرغت من مضامينها ، ولم تعد تعني شيئا ..والتحقت بها جثث هامدة من العبارات سابقة التجهيز ، من قبيل : الخيار الاستراتيجي ــ لمَ لا يكون ” الموز الاستراتيجي مثلا ؟!! ــ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ــ ولم يعد أحد يسميه بمسماه الدقيق : الصراع العربي الصهيوني ــ والنجاح التاريخي ، واللقاء التاريخي ، واليوم التاريخي ــ إشارة إلي قيمته العالية ــ علي الرغم من أن هذا جميعا : لقاءً أو نجاحا أو فشلا أو يوما ، يقع أمام اعيننا الآن ، ولم يدخل بعد من باب التاريخ ولا من شباكه .. فالتريخي ــ أي شئ ـ ينبغي أن يمر عليه قرون أو عقود ..فيقال مثلا ” منزل تاريخي ” و ” قصر تاريخي ” أي اقترب عمره من قرن ، وإذا زاد عليه فهو ( أثري ) .. وواقعة تاريخية ، أي حدثت منذ زمن طويل .. ويحتاط المؤرخون في هذا المعني فيسمون أحداثا شاهدناها أو عاصرناها بأنها تنتمي ” للتاريخ المعاصر ” كاتفاقية كامب ديفيد واتفاقية المناخ واتفاقية ستارت واتفاقيات اوسلو ووادي عربة .. فتفاعلات هذه الأحداث وآثارها المباشرة مازالت تجري علي الأرض .. هنالك مثلا من يرفض اتفاقية السلام بين مصر والصهاينة حتى الآن .. وهذه الأحداث التي تصنف من التاريخ المعاصر ، وليس التاريخ القديم أو الوسيط أو الفرعوني أو الإغريقي أو .. أو .. هي ما يتداخل فيها السياسي بالتاريخي
الببغاوات !!
المجانية في التعبير ، وطريقة الببغاوات في ترديد عبارة او جملة أو فقرة ، لا تقف عند اللغة الدبلوماسية فحسب ، إنما أصيبت بها لغة الصحافة في العقود الأخيرة بعد رحيل رموزها الفكرية العالية : طه حسين ود.محمد حسين هيكل والعقاد وفكري أباظة وكامل الشناوي .. وغيرهم .. فلا يخلو خبر أو تحقيق أو تغطية من مفردات : صرح ، أعرب ، أضاف ، أدان ، أكد ، نفى !!!
وفي مجال الفكر السياسي سيصك أذنك ألف مرة كل يوم من خلال القنوات التليفزيونية والصحف تعبير ( الإسلام السياسي ) ويقصدون به ( التيارات المتطرفة التي توظف الإسلام لنيل مكاسب سياسية ) .. وهو مصطلح استشراقي أطلقه الغرب بخبث طوية ، ليصموا دين السلام والمسالمة والمحبة والاعتدال ، بكل ما يرتكبه الإرهابيون والمتطرفون من أعمال وحشية دموية ضد البشرية ..وعلى المستوى العقلي فتعبير ( الإسلام السياسي ) غير منطقي ..وإذا أقررناه فإن لدينا كذلك ( الإسلام الاقتصادي ) و( الإسلام الثقافي ) و ( الإسلام الفني ) !! وهكذا ، كما كنت أعترض علي تعبير استاذي الراحل الدكتور عبد الله خورشيد : ( الأدب المصري ) وأقول له ــ وهو يحتمل اعتراضي بسعة صدر العالم ــ إذا قسَّمنا الادب علي أساس جغرافي : فنقول : الأدب المصري والأدب الجزائري والأدب العراقي والادب التونسي …. فهذا يعني أننا نستطيع أن نقول : الأدب السكندري والادب الاسيوطي والأدب الشرقاوي … ثم نقول كذلك : الأدب الأنفوشي والأدب الديرب نجمي ــ نسبة لديرب نجم !! ــ وأدب وسط البلد وشارع عبد الخالق ثروت !!!
أوبئة لغوية !!
من الأوبئة اللغوية كذلك مثل هذه التعبيرات :
ــ العالم العربي : وطمسوا التعبير الدقيق والموحي ” الوطن العربي ” .. فنحن وطن واحد : لغة وثقافة وماضيا أسودَ !! وحاضرا أكثر سوادا !! ومصيرا مجهولا !! .. وما يربط أقطار الوطن العربي ببعضها أعمق مما يربط ولايات أمريكا الشمالية .
ــ ” لعبت ” الدولة أو الدبلوماسية ، دورا في حل مشكلة كذا … و” لعبت ” هنا تسخِّف وتقزم وتسيئ لدور كبير ما ..نحن هنا بصدد الجد لا اللعب .. والدقيق أن نقول ” أدت ” الدولة أو الحكومة أو الدبلوماسية دورا ـ مثلا ـ في حل مشكلة غزة .
ــ ما وقع من اعتداء في حق فلان …والدقيق أن نقول : ” ضد فلان” أو ” علي فلان” وليس في حقه.
ــ مربط الفرس : تعبير للمتحذلقين من المعلقين السياسيين ــ يعلقون دائما ملابسهم علي أحبال القنوات الفضائية !! ــ ولا أدري لمَ لا يكون ” مربط الحمار ” أو ” مربط المعزة” أو ” مربط الجاموسة ” .. فكلها مرابط !!!
*****
من أين يبدأ تصويب هذا التشوه اللغوي ، والتخلص من القوالب الجاهزة التي تستهلك وقتا في زمن يقاس بالفيمتوثانية ؟؟!! يبدأ التصويب بتثقيف المتحدثين الرسميين والمسئولين ، ثقافة لغوية : علم اللغة وفقه اللغة وتاريخ اللغة …. علي أيدي المتخصصين ..فإذا كانوا ” يصرِّحون ” تسعة وعشرين يوما في الشهر ، فليتعلموا يوما واحدا !! وحينها سيكون يوما ” تاريخيا ” وجغرافيا وغنائيا !!! حزين عمر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى