تحقيقات وتقارير

اول رسالة دكتوراة عن موريتانيا في الجامعات المصرية بمثابة حوار بين المركز والأطراف في الستينيات

 وصف محمد حسنين هيكل موريتانيا بأنها قد أصابتها لعنة الجغرافيا ، والحقيقة أنَّه في هذه الجملة قد أصابته لعنة الجهل ، الجهل بحقائق استراتيجيات الجغرافيا ، فهذه الدولة بحسب هذه الإستراتيجيات تحتلُّ موقعًا متميِّزًا للوطن العربي بين قارات العالم القديمة والجديدة فهي تشرف على غرب ووسط أفريقيا ودول الساحل ،و تقع جنوب أوروبا ، وبالقرب منها وفي مواجهة أمريكا وكندا وفي غرب الوطن العربي الذي لو لم يصل إليها المجاهد الكبير سيدي الشيخ عبد الله بن ياسين وتحالف مع أميري صنهاجة يحيى بن عامر وأخيه أبي بكر لما تجذَّر الإسلام وانتشر في غرب ووسط أفريقيا ، ولو لم تتسرَّب إليها قبائل بني حسَّان عرب المعقل لما تمدَّدتْ اللغة العربيَّة ، وهو ماجعلها تحوز أهمية الموقع واستراتيجيات الجغرافيا . أقول ذلك تحيِّزا لهذي البلاد وهو التحيُّز المبنيٌّ على إدراك وفهم ودراسة ، تأخرتُ في إعلانه بسبب تلاحق الأحداث وتزاحم الانشغالات ، وتأخَّرتُ كثيرًا في الإشارة إلى توفيق الله بإنهاء سنوات البحث والدراسة حول الحياة الفكريَّة في موريتانيا خلال القرن التاسع عشر والحصول بها على درجة دكتوراة الآداب في التاريخ الحديث بتقدير مرتبة الشرف الأولى، تحت إشراف العالم الجليل والمؤرخ الكبير الأستاذ الدكتور خلف الميري الذي كان لي نعم المرشد والمعلم والمؤازر والموجه ، والعالمة الجليلة الأستاذة الدكتورة عايدة سليمة، ومناقشة أستاذي الجليل المؤرخ الكبير الأستاذ الدكتور السيد فليفل الذي تعلمت على يديه بدايات المعرفة عن قارتنا الحبيبة أفريقيا ، وأخي الأكبر وأستاذي العالم الجليل الأستاذ الدكتور ابراهيم جلال ،تناولتُ فيه ما شهدتْه صحراء صنهاجة ( موريتانيا ) من حراك فكري وسياسي بُنِي على التعليم المحضري ، والمحاضر هي مؤسسات العلم ، ما يشبه الكتاتيب في مصر أو الخلاوي في السودان وإنْ كانتْ أشمل تعليمًا ، وأكبر مساحةً ، وأطول عمرًا ، وأكثر وأعمق مناهج، أو بمعنى أوضح هي جامعات صحراويَّة.
رصدت فيها التحوُّل الاجتماعي والانصهار البشري الذي حدث في موريتانيا على مدى قرون في تلازم وتوافق مع توسُّع النفوذ العربي وسيادة لغته العربيَّة بعد صدامات ومناوشات ومعارك أسهمت في هذه التحولات البنيويَّة وحسمتها معركة “شُرّبُبه”. التي مكَّنت للعرب السيطرة على بعض النطاق الجغرافي من صحراء صنهاجة (موريتانيا ) وبُنيت الحركتان الاجتماعيَّة والفكريَّة على هذا التحُّول الذي اكتمل بالانصهار العرقي ، مُتبعًا المنهج العلمي التحليلي الراصد والتاريخي الوصفي الاستقرائي، والتصوُّر التوظيفي لكل الإشارات التي تفيد الدراسة ، مع توخِّي الحذر أمام الحوليَّات والمشجرات، وانتهاج المقاربات والمقارنات، للخروج بنتائج أقرب إلى الدقة، خاصةً أنَّ هذا المجال الجغرافي يتميَّز بخصائص اجتماعية فريدة نتيجة اندماج ثقافات متعددة ، العربيَّة والصنهاجيَّة والأفريقيَّة ( ولوف وبمبارا وفلان وسوننكي ) بعضها يتنازع ويتصادم فكريًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا في علاقة جدليَّة يحفُّها الصراع الدائم للمجتمع القبلي في هذه الصحراء، وإن شكَّل فسيفساء ثرية ، تمثَّل في تنامي وتأثير دور مدن العلم ( ولاته وتيشيت وشنقيط وودان) وتناولت دور الحج وقوافل التجارة الإيجابي في تعميق الوجود العربي والإسلامي؛ وهو أمر مهمٌّ وجدير بالاهتمام والدراسة من قبل الباحثين والمؤرخين والصحفيين في المشرق العربي ، خصوصًا أنَّ مناطق الأطراف لم تحظَ حتى الآن بدراسة كافية ، وركَّزت على الإنتاج الفقهي “التجديدي” المهمِّ لأحد أكابر فقهاء الإسلام في غرب أفريقيا وهو “مخطوط البادية” للشيح محمد المامي، الذي يُعدُّ أهم ما ظهر من نتاج فكري وفقهي في هذه المنطقة من العالم ، ويكمل حلقة النضوج الفكري والتجديد الفقهي بالدعوة إلى فتح باب الاجتهاد وإعمال التفكير الذى بدأ قبله على يد الشيخ سيدي المختار الكنتي الكبير وسيدي الشيخ سيديا الكبير وسيدي الشيخ حسن الزايدي الداودي وغيرهم من العلماء، و كان محاولةً جادةً ومؤثِّرةً في تغيير الحالة الفكريَّة والاجتماعيَّة والدينيَّة في صحراء صنهاجة ، لإيجاد حلول لإشكاليات المجتمع، مما أهمل الفقهاءُ قبله الإجابة عليها. وهو ما أسَّس لتيار فكري وفقهي شمل إرهاصات قيام الدولة ومهَّد للتفاعلات الفقهيَّة والاجتماعيَّة التي تمثَّلت في الدعوة إلى ” نصب الإمام”. والتي حدَّدت رؤية فكريَّة جديدة للعقل الصحراوي ، وأسَّست لما كان يمكن أن يتحوَّل إلى مشروعَ فكري للعقل الصحراوي إذا تلقَّف فقهاء الصحراء ومؤرخوها الإنتاج الفقهي الغزير الذي تراكم في الصحراء على مدى قرون وأكملوا نواحيه المتعددة وسدُّوا ثغراته المتوسِّعة، مما قد يهيئ الأرض لمشروع فكري وفقهي متميِّز يصلح لمواجهة التطرُّف الذي تسرَّب إلى كافة مناطق غرب ووسط أفريقيا ولتفكيك الخلافات العرقية الحادثة نتيجة الجفاف والتصحُّروالعنصريَّة ، وتغوُّل عصابات الإرهاب والتهريب، ويكمل مشروع سيدي الشيخ عبد الله بن ياسين ورفيقيه يحيى وأبي بكر بن عامر وسيدي الشيخ عثمان دان فوديو في باقي أرجاء القارة ، على أنْ يحدد المؤرخون وأساتذه علم الاجتماع والفقهاء والباحثون الموريتانيون ويتفقون على مدوَّنة سلوك انضباطي وتعريفي للجهات والمصطلحات والأسماء التي تسبِّب الحيرة للباحثين عند دراسة مكان أو تحديد منطقة جغرافيَّة بسبب اختلاف أسماء ومصطلحات الجهات الجغرافيَّة عما هو معلوم ومستقر في الدراسات التاريخيَّة والجغرافيَّة في العالم أجمع، فمثلًا في منطقة الترارزة (تقع في الجنوب الغربي لموريتانيا ) يُطلَق لفظ “القبلة” على الجنوب، وأهل القبلة في نصوص الترارزة تُطلق على الترارزة الكحل (السود)، وغالبًا ما يُطلَق لفظ ” القبلة” على المناطق الجنوبيَّة من الأقاليم أو الإمارات حيث إنَّ لكل منطقة في موريتانيا قبلتَها أو جهتَها الجنوبيَّة التي يُطلَق عليها لفظ “القبلة”، والجزء الغربي من بلاد البيضان بدءًا من الساقية الحمراء، فتيرس، فباطن أدرار، إلى إينشيري، إلى منطقة الترارزة (القبلة) فجنوب البراكنة وكوركول يطلقون (زمور) على الشرق، ويطلقون على الغرب كلمة “ساحل” وعلى الشمال “تل” أما سكان بلاد البيضان الأخرى بدءًا بظهر “أدرار” حتى “تكانت”، فأجزاء من منطقة “البراكنة”، و”العصابة”، فالحوضين الغربي والشرقي، فإنهم يطلقون لفظ “شرق” على الجنوب، و”ساحل على الشمال”، و”تل” على الشرق، و”قبلة” على الغرب وهكذا!!
وقد صعب ذلك أيضًا على باحث آخر من أساتذتنا وهو الدكتور سيدي أحمد بن أحمد سالم – رغم أنه موريتاني – لكن صعب عليه أيضًا فهْمُ هذا الاختلاف الحاصل بين المناطق حول تحديد الجهات ولم يجدا له تفسيرًا! فضلاً عن الازدواجيَّة في أسماء الأعلام والجهات بين الكتابة والنطق. ومن أمثلة ذلك، ازدواجيَّة النطق والكتابة، فمثلاً جدالة (القبيلة) ويكتبها مؤرخو موريتانيا (كدالة)، وينطقونها (جدالة)، وكذلك كلمة “شرق” نطقًا، فهي “شرك” كتابةً، وأيضًا “رزق” نطقًا، أمَّا كتابةً فهي “رزك”، كذلك الاختلاف في الأسماء ونطقها مثل اسم البلاد نفسها، وحتى الاسم الذي عُرفت به البلاد وهو “شنقيط”، يُنطَق ويُكتَب باختلافات، شنكيطي، شنقيط، شنجيط فإن كلَّ ذلك ليحيِّرُ الباحثَ ويعجزه –أحيانًا- عن الربط الشافي المفيد والتلقي المحدد، ويدور به دورانًا كبيرًا يحيد به في بعض الأحايين عن الدقة. حتى أسماء الكتاب والباحثين أنفسهم تجد الكاتب يوقِّع باسمه مختلفًا في كتب أو دراسات متعددة مثل الدكتور محمد بن صدفن الراضي أو الراظي ، ففي مجلة دراسات العدد الثاني ديسمبر 2012 وقع باسم ولد صدفن باسم الراضي ، وكذلك في ترويسة مجلة الدراسات التاريخيَّة والإجتماعيَّة التي يشغل موقع مدير التحرير فيها ، وكذلك في مجلة عصور جديدة عدد فبراير) 2014، وفي كتب اخرى وقع باسم الراظي ، ومثله لآخرين ،أما الأسماء فمرةً يكتب فلان بن فلان ، ومرة يكتب فلان ولد فلان ، صحيح أنَّ اللفظين يؤدِّيان نفس المدلول والمعنى ، ولكن ، لماذا لا يوحد؟! وكذلك محضرة ومحظرة . خلاصة القول أنَّ الإخوة في موريتانيا يعيبون على أبناء المشرق العربي عدم الاهتمام بهم ، ولا ببلادهم ، ولا بإنتاجهم العلمي والثقافي، وهم يكتبون ويتحدَّثون وكأنَّهم يتحدَّثون إلى بعضهم ، ويغيب عنهم أنَّ أغلب المستمعين والقراء لا يعرفون لهجتهم كتابةً ونطقًا ، وإنْ يكن الاختلاف وعدم الاتفاق على الأنساب والحدود الجغرافيَّة والتواريخ، والمصطلحات والألفاظ، فذلك ليس وحيد الاختلاف بينهم.
أما أغلب المدوَّنات والحوليَّات الموريتانيَّة فهي مجرد تكرار لنصوص سابقيهم وسياقه الاجتماعي والقبلي ، وهو ما أشار إليه المؤرخون؟! ولهذا أرى بتواضع الباحث أنَّه من الضروري على زملائي وأساتذتي من الباحثين و المؤرخين والكتاب الموريتانيين الاتفاق على مدوَّنة سلوك كتابي وضبط المصطلحات والاصطلاحات والأسماء باعتبار ذلك أولى لدى كلِّ من يتصدَّى للكتابة عن المنطقة من الموريتان أنفسهم حتى لا يقع الباحثُ من غير بلادهم في أزمة البحث عن حل أو تفسير.
ولكننا سنتخذ من هذه الاختلافات، إشارات على عدم الاتفاق على التاريخ وتحديده، وكذلك الاختلاف على القبائل وصحة أنسابها، و مواطن سكناها . ومن الصعوبات التي تواجه أي باحث في تاريخ موريتانيا هو إغراق مؤرخيها في الأخذ من عدد محدود من المصادر والحوليَّات المنشورة و المتداولة، أو المخطوطات – المحقَّقة وغير المحقَّقة ، و صعوبتها أنَّ عددًا كبيرًا من المصادر والمخطوطات، توقَّفت عند موضوعات محددة، أما أكثر الدراسات والمخطوطات المحقَّقة وغير المحقَّقة ففيها إغراق في ذكر حوادث السنين (الحوليَّات) وأخبار الإغارات، والقتل، والنهب، وفرض المغارم، والمؤامرات داخل الأسر الأميريَّة وهي كثيرة، وشياخات القبائل وغيرها وتعمد التكرار المخلِّ والمملِّ أحيانًا لمشاهد الحركة الفكريَّة والمجتمعيَّة، وهو ما يشكِّك الباحث الغريب في هذه المدوَّنات ، وإنْ امتلكوا وعيًا بضرورة التدوين للأحداث. بهدف الفخر القبلي الاستعلائي، لتحقيق أهداف قبليَّة ضيقة، سواء بإثبات وإشاعة وتأكيد نسب القبيلة من خلال نسب الجد الجامع “الشريف” –وتجذير هذا النسب الشريف في الوسط الاجتماعي ، أو بإبراز المجد والقوة والعصبيَّة المشرفة. هذا في القبائل العربيَّة الحسَّانيَّة والمغفريَّة، أو التفاخر بالأصل الزاوي العلمي بالنسبة لقبائل الزوايا بوصفهم أهل الشريعة وأصحاب”التازُبَّةْ”، وطرق الإرشاد والهدايَة.
وختاما أشكر أساتذتي وشيوخي الأجلَّاء وزملائي الباحثين والصحفيين من أهل البلد الطيب موضع البحث والدراسة موريتانيا
وعلى رأسهم فخامة السيد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني.
وسعادة الفريق حننا ولد سيدي حننا وزير الدفاع
لكريم رعايتهما ودعمهما أثناء رحلة البحث وحتى التقدُّم بالدراسة لمناقشتها.
كما يشكر الباحث الأستاذ الدكتور محمد أحمد ولد البرناوي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة نواكشوط، والمُفكِّر الكبير الأستاذ الدكتور محمد ولد أحظانا، أستاذ النقد والأدب بجامعة نواكشوط، و القطب الصوفي التقي النقي الورع سيدي وإمامي الشيخ علي الرضا بن محمد ناجي الصعيدي، والشيخ أحمدو ولد عابدين، والأخ والصديق “الأمير” عبد الله ولد سيدي حننا، والأخ والزميل الدكتور محمد يحيى لكويري، والأخ والزميل الصحفي الكبير مختار ولد الشبيه، والأستاذ الدكتور محمد سالم ولد الطلبه، ومن مصر الأستاذ أحمد جابر نائب مدير إدارة الترجمة والنشر بالأهرام، والأستاذ الدكتور محمود أبو سكين والزملاء الدكتور علاء كامل، والدكتور عبد القادر جابر، والدكتور صلاح شفيع، والزميل والصديق الباحث الأستاذ أحمد حسن كما يذكر بالشكر الأستاذة كوثر الصايم مديرة شئون الدراسات العليا بالكلية، والأستاذة داليا ابراهيم، والأستاذه ماريان عوض سكرتيرة قسم التاريخ، والأستاذ سمير السيد بإدارة العلاقات العامة بالكلية على معاوناتهم ومساعداتهم المثمرة والمفيدة،

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى