سلايدرمقالات

الدكتور زكريا النوتي “” يكتب “” فضفضة أدبية معلقات العرب وَنَوَارُ لَبِيْد

فضفضة أدبية

معلقات العرب وَنَوَارُ لَبِيْد

                     أ.د. زكريا النوتي

         الأستاذ المتفرغ بقسم الأدب والنقد 

    وعميد كلية العلوم الإسلامية للوافدين سابقا

 

الحلقة الأولى

في السنوات الأخيرة اهتديت إلى طريقة جديدة في درس المعلقات، أراها رائقة وشيقة. حيث لاحظت أن كل معلقتين بينهما ارتباط وثيق تُدرسان من خلاله..

والعجيب أن القدماء فطنوا إلى ذلك، إلا أنهم لم يجهروا به، وإنما رتبوا المعلقات بناء على تلك الرؤية.

معلقتا امرئ القيس وطرفة:

جاءت معلقة طرفة تالية لمعلقة امرئ القيس لدى بعض الرواة، فهل كان هذا الترتيب خبط عشواء، أو كيفما اتفق؟

كلا .. وإنما هناك جامع يجمعهما، فهما بمثابة مذكرات شخصية لصاحبيهما:

أما معلقة امرئ القيس:

فقد نظمها في أخريات حياته، قُبَيْلَ موته، دفعة واحدة .. وليس كما ذهب بعض النقاد والدارسين إلى أنها نظمت على ثلاث مراحل، مَثَّلّتْ أطوار حياته الثلاثة.

وقد أشار ابن الأنباري إلى ذلك -عَرَضًا- في جملة ربما لم يلتفت إليها كثير من الدارسين. 

قص امرؤ القيس قصة حياته بشفافية وصدق ووضوح. بينما كان ينتظر الموت، فلا مجال للكذب أو التزييف.

لقد ذكر عَبَثَه ولهوه ومجونه، وتهافت الفتيات عليه كأمير ابن ملك. وزهد في أن يكون ملكا على الناس، وإنما أراد أن يكون ملكا على الشعراء، على عكس المتنبي فيما بعد.

عرض امرؤ القيس إذا حياته بكل دقائقها وتفاصيلها على المتلقي، وألقى كافة أوراقه مكشوفة؛ ليرى المتلقي رأيه: أكان امرؤ القيس على صواب، أم أنه أخطأ؟ أيحتمل امرؤ القيس نصيبا مما لقيه أبوه؟ أم هو برئ من ذلك؟

إنه يقول: لهوت وعبثت وشربت الخمر، وكانت لي مغامرات مع النساء، فلما قتل أبي تحولت حياتي .. (اليوم خمر، وغدا أمر).

لقد سعيت حثيثا؛ لإدراك ثأر أبي واستعادة ملكه الضائع، حتى إنني عشت مع الصعاليك فترة من حياتي؛ أملا أن يعينوني ويحققوا طلبتي:

وَقِرْبَة ِ أقْوامٍ جَعَلْتُ عِصامَها

 

على كاهِلٍ مني ذَلُولٍ مُرَحَّلِ

 

وَوادٍ كجَوْفِ العَيرِ قَفْرٍ قطعتُهُ

 

بهِ الذئبُ يَعوي كالخَليعِ المُعَيَّلِ

 

فَقُلتُ لَهُ لما عَوى: إنّ شَأنَنا

 

قليلُ الغنى إنْ كنتَ لمَّا تموِّلِ

 

كِلانا إذا ما نالَ شَيْئاً أفاتَهُ

 

وَمن يحترِث حَرْثي وَحرْثَك يهزُلِ

 

وقد أنكر بعض الدارسين نسبة هذه الأبيات إلى امرئ القيس، قائلين: [هي إلى كلام صعلوك أقرب منها إلى كلام ملوك].

والحق أنها له؛ لأنه عاش فترة -كما أسلفت- مع الصعاليك.. ولما لم يحققوا أمنيته لجأ إلى قيصر الروم الذي أهداه حلة مسمومة، تقرَّح منها جسده؛ فَلُقِّب (ذا القروح).

***

 أما طرفة:

ذلكم الشاب الذي لو قُدِّر له أن يعيش لكان نابغة الشعراء بلا منازع، فكان (الفتى الأوحد): 

إِذَا القَوْمُ قَالُوا مَنْ فَتَىً خِلْتُ أنَّنِـي

 

عُنِيْـتُ فَلَمْ أَكْسَـلْ وَلَمْ أَتَبَلَّـدِ

 

لا نظير له من قبيلته .. وكانت فلسفته: أنني أؤدي واجبي تجاه قبيلتي على أكمل وأتم ما يكون الأداء .. وفي المقابل: من حقي أن أستمتع بالحياة كما أشاء – فذهب يسرف على نفسه في شرب الخمر، حتى ضاقت به قبيلته ذرعا واتخذت قرارها:

وَمَـا زَالَ تَشْرَابِي الخُمُورَ وَلَذَّتِـي

 

وبَيْعِـي وإِنْفَاقِي طَرِيْفِي ومُتْلَـدِي

 

إِلَـى أنْ تَحَامَتْنِي العَشِيْرَةُ كُلُّهَـا

 

وأُفْـرِدْتُ إِفْـرَادَ البَعِيْـرِ المُعَبَّـدِ

 

خشيت القبيلة أن يكون طرفة سببا في (عدوى) شباب القبيلة .. وتحاشته (كلها)؛ فاتخذ قراره بالابتعاد.

طرفة يعرض قضيته على المتلقي ليرى رأيه .. وكانت حياة امرئ القيس نصب عينيه. وقد أشار إلى ذلك في لمحة بارعة حين قال: 

وُقُـوْفاً بِهَا صَحْبِي عَليَّ مَطِيَّهُـمْ

 

يَقُـوْلُوْنَ لا تَهْلِكْ أسىً وتَجَلَّـدِ

 

إنه نفس بيت امرئ القيس الفارق بينهما حرفان فقط (تجمل – تجلد) .. ترى: أكان ذلك من وقع الحافر على الحافر؟ أم سرقة؟ أم ماذا؟

لقد عرضت هذا التساؤل على زملائي وأساتذتي، ولم أظفر بجواب شافٍ .. والذي يبدو لي أنه ليس شيء من هذه كلها .. وإنما أراد طرفة أن يلفت نظر المتلقي -منذ البدء- إلا أن معاناته هي نفسها معاناة امرئ القيس:

فإذا كان امرؤ القيس ظلمه أبوه؛ حيث ضيق عليه، وحصره في دائرة الملك والإمارة، وأشار إلى ذلك قائلا: [ضيعني صغيرا، وحملني دمه كبيرا]، فإن طرفة ظلمته قبيلته حين رفضت (الفلسفة الطرفية)..

وإذا كان امرؤ القيس قد اغترب، وعانى حين عاش مع الصعاليك في رحلة البحث عن ثأر أبيه، فإن طرفة قد اغترب حين ترك قبيلته، حتى عيَّرته إحدى الفتيات فقال: 

وَلا غَروَ إِلّا جارَتي وَسُؤالُها

 

أَلا هَل لَنا أَهلٌ؟ سُئِلتِ كَذَلِكِ

 

تُعَيِّرُني جوب البِلادِ وَرِحلَتي

 

أَلا رُبَّ دارٍ لي سِوى حُرّ دارِكِ

 

فهو يدعو عليها أن تُبتلى بما ابتُلي به من الغربة ..

لسان حال طرفة يقول: ها هو أمير الشعراء، وها أنا الفتى الأوحد، كلانا ظُلم ظلما بيِّنا، وكانت وسيلته إلى ذلك ترديد بيت امرئ القيس المذكور.

من هنا: لم يكن ترتيب بعض الرواة عبثيًّا، أو خبط عشواء..

*** 

(يتبع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى