مقالات

الدكتور ” زكريا النوتي يكتب فضفضة أدبية معلقات العرب وَنَوَارُ لَبِيْد

فضفضة أدبية

معلقات العرب وَنَوَارُ لَبِيْد

                     أ.د. زكريا النوتي

         الأستاذ في كلية اللغة العربية بالقاهرة 

       والعميد الأسبق لكلية العلوم الإسلامية 

الحلقة الثانية

(زهير وعنترة – في أتون داحس والغبراء)

زهير:

ظُلمت معلقة زهير ظلما بيِّنا بأيدي الدارسين؛ فقد قطعوها إربًا، ومزقوها أشلاء، حتى إننا في مدارسنا وجامعاتنا نجتزئ مقطع (السَّاعِيَيْنِ بالسلام) للدراسة، ونغفل القصيدة كلها، زاعمين أنها مقاطع منفصلة، لا يربطها رابط!!!

ولقد درستُ هذه القصيدة، وحللتها تحليلا أثبتت فيه وحدة تجمعها مذ أول بيت فيها إلى آخر أبياتها.

(أم أوفى)

كان بدء ذلك التمزيق بسبب التفسير الخاطئ لأبيات الطلل وصاحبته؛ فقد قالوا: إن (أم أوفى) كانت زوجا لزهير، وولدت له أولادا، وماتت هي وولدها. (ما شاء الله!! هكذا بكل بساطة!!!).

وقلت: إن (أم أوفى) ليست امرأة حقيقية من لحم ودم، وإنما هي رمز، والرمز كثير جدا في أسماء النساء في الشعر القديم… لماذا آثر زهير (أم أوفى) وهو يتحدث عن حرب (داحس والغبراء) التي ظلت مشتعلة الأُوار طوال عدة عقود؟!!

ذهبتُ إلى أن (أم أوفى) رمز على الوفاء المفقود، والمرجوِّ في آنٍ.

  • الوفاء المفقود: طوال تلك السنوات؛ حيث القبائل العربية كلها ليس فيها رجل رشيد ينهض للصلح بين القبيلتين؛ لإيقاف أنهار الدماء المتدفقة، والأرواح الزاهقة، والدمار الذي حلَّ بالأخضر واليابس .. لقد اكتفوا بالمشاهدة وكأنهم يتسلون بهذه الحرب.
  • ثم الوفاء المرجوّ: بسعي السَّاعِيَيْنِ؛ حيث تحملا ديات القتلى. قيل: ثلاثة آلاف بعير، أدَّيَاها على ثلاث سنوات؛ لحقن الدماء، ولتضع الحرب أوزارها. وإنما قلت: “مرجوّ” ولم أقل: “محقق”؛ لأن زهيرا يخشى من غدر بعض الأشرار فتضيع جهود السلام هدرا.

كان زهير ناقما على العرب كلهم؛ بسبب تخاذلهم وسلبيتهم، وزهير مصلح اجتماعي صاحب رسالة، أو يرى نفسه كذلك. أوليس حكيم غطفان؟!!

إنه شاعر الحكمة والسلام، الوقور المتزن، وهو رجل يتسم بالروية، ولعل تنقيحه شعره وتهذيبه كان أثرا من آثار تلك الرَّوِيَّة والأناة؛ فهو مدرسة وحده.

وقف زهير على الأطلال التي خربتها الحروب، بعد عشرين سنة .. ثم تخيلها وهي ترفل في النعيم، يعمها الأمن والسلام، ويشرق نور الصباح بعد ليل طويل دامٍ.

وَقَفتُ بِها مِن بَعدِ عِشرينَ حِجَّةً

فَلَأياً عَرَفتُ الدارَ بَعدَ تَوَهُّمِ

فَلَمّا عَرَفتُ الدارَ قُلتُ لِرَبعِها

أَلا عِم صَباحاً أَيُّها الرَبعُ وَاِسلَمِ

وهذا يتحقق بسعي السَّاعِيَيْنِ اللذين خصهما بالمدح، وآثر استعمال ضمائر التثنية قصرا عليهما (ساعيا – السيدان – وجدتما – تداركتما – قُلتما – أصبحتما – بعيدين – عظيمين).

***

أبيات الحكمة:

وتعجب حين ترى الدارسين يفصلون أبيات الحكمة عن بقية القصيدة، وهو خطأ محض؛ فالحكمة وثيقة الصلة بموضوع القصيدة منذ المطلع.

 

 

  • أحمر عاد:

 

ويحذر زهير من اشتعال الحرب مرة أخرى؛ فيصورها صورا مرعبة، تارة: أسدا ضاريا، ونارا مضطرمة، ورحًى تطحن الناس طحنا، وأما تلد أولاد شؤم وشرٍّ كـ (أحمر عاد).

إن (قُدَار بن سالف) هو الذي عقر ناقة صالح -عليه السلام- (إذ انبعث أشقاها) .. لكن العقوبة لم تخصه وحده، بل عمت القوم جميعهم؛ لأنهم سكتوا على المنكر، وهكذا لو عادت الحرب مرة أخرى.

مآخذ النقاد على زهير:

  • قالوا: إنه قال: (أحمر عاد)، والصواب: (أحمر ثمود)، وَرُدَّ عليهم بأن هناك عادا الأولى، وهم قوم هود، وعادا الثانية وهم قوم صالح.
  • وقالوا: أنَّى لزهير الرجل الحكيم أن يقول:  

                         ومن لا يظلم الناس يُظلم

والحق أنه رغم كل الجهود التي بُذلت لدفع هذا الخطأ ومحاولة الانتصار لزهير فإن في النفس منه شيئا، وزهير ليس معصوما من الخطأ.. وربما كان قوله ذلك أثرا من آثار الحياة البدوية، التي لا مكان فيها لضعيف، لا سيما والقوم إما مُغيرون وإما مُغارٌ عليهم.

وكذلك قوله:

رأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ

تُمِـتْهُ وَمَنْ تخطئ يُعَمَّـرْ فَيَهْـرَمِ

فكيف تكون المنايا خبط عشواء؟! وأرى أن طرفة ابن العشرين كان أدق حين قال:

لَعَمْرُكَ إِنَّ المَوْتَ مَا أَخْطَأَ الفَتَى

لَكالطِّوَلِ المُرخى وثِنياهُ باليَدِ

مَتَى مَا يَشَأْ يَوْماً يَقُدْهُ لِحَتْفِهِ

وَمَنْ يَكُ فِي حَبْلِ المَنِيَّةِ يَنْقَدِ

وأختم حديثي بدفع ذلك الاتهام عن زهير ألا وهو تكسبه بشعره؛ فأنا لا أراه متكسبا لسببين:

  • أنه كان ميسورا بسبب ميراثه من خاله.
  • حكايته مع هرم بن سنان الذي أقسم: لئن رآه أو سمعه ليُغْدِقَنَّ عليه كل مرة؛ فكان زهير إذا مرَّ بقوم فيهم (هرم) يقول: عموا صباحا غير (هرم)، وخيركم استثنيت.

عنترة:

أحد أشهر فرسان الجاهلية، وهو من أَغْرِبَةِ العرب، فارس شجاع، يضرب به المثل في ذلك؛ ومن ثم حِيْكَتْ حوله الأساطير –  شأن  كل الفرسان المشاهير.

الهدف الأسمى لعنترة:

عنترة في معلقته له غاية أخرى غير غاية زهير؛ فهو يعاني قهرا وذلا وعبودية .. ومن هنا لم يرقأ له جفن، ولم تُغمض له عين، مسهَّد، مؤرَّق، ثم إنه عاشق مولَّه بابنة عمه، ملكت عليه لُبَّه، وأصبح فؤاده خاليا من كل شيء إلا منها .. الأمران سبيلهما واحد، وهو الحرية، وحين يتحرر فسبيل الوصول إلى محبوبته ممهد.

لقد طلب إليه شداد أن يَكُرَّ فقال قولته: [العبد لا يُحْسِنُ الَكَّر، وإنما يُحْسِنُ الحِلاب والصّر] وفيها من المرارة ما فيها؛ فما كان من شداد إلا أن قال: كُرَّ وأنتَ حُرٌّ.

إنها فرصته الوحيدة لتحقيق هدفيه معا، ولذا أتخيَّل عنترة وهو يضاعف قدراته، ويجود بكل إمكاناته في ذلك القتال.

تأمل قوله:

هَلاَّ سَأَلْتِ الخَيْلَ يَا ابْنَةَ مَالِكٍ

إِنْ كُنْتِ جَاهِلَـةً بِمَا لَمْ تَعْلَمِي

يُخْبِرْكِ مَنْ شَهِدَ الوَقِيعَةَ أَنَّنِـي

أَغْشَى الوَغَى وَأَعِفُّ عِنْدَ المَغْنَمِ

عنترة يرى معشوقته في ميدان المعركة، لا تكاد صورتها تفارقه، يتخيلها وهي تشهد بطولته وفروسيته وبلاءه في الحرب، كأنها هناك واقفة ..

وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالرِّمَاحُ نَوَاهِلٌ

مِنِّي وَبِيضُ الْهِنْدِ تَقْطُرُ مِنْ دَمِي

فَوَدِدْتُ تَقْبِيلَ السُّيُـوفِ لأَنَّهَا

لَمَعَتْ كَبَارِقِ ثَغْرِكِ الْمُتَبَسِّـمِ

ربط بين حبيبته وسيفه ربطا عجيبا؛ لأن السيف هو وسيلته لغايته. أرأيت إلى لاعبي الكرة حين يقبلونها عند تسديد ركلة ترجيح!! إنها وسيلتهم للتتويج .. والسيف وسيلة عنترة. وللسيف في الشعر العربي مكانة لا تعدلها مكانة.

وعنترة ارتبط بجواده كذلك، والعلاقة بين الفرس والفارس علاقة معجمية وواقعية .. فكلاهما من (ف ر س) ولا فارس بدون فرس .. وتتنامى علاقة الفارس بفرسه حتى يفهم أصواته وحركاته وسكناته:

فَازْوَرَّ مِنْ وَقْـعِ القَنَا بِلَبَانِـهِ

وَشَكَا إِلَيَّ بِعَبْـرَةٍ وَتَحَمْحُـمِ

لَوْ كَانَ يَدْرِي مَا المُحَاوَرَةُ اشْتَكَى

وَلَكانَ لَوْ عَلِمْ الكَلامَ مُكَلِّمِي

ومثله فعل مالك بن الريب وهو يرثي نفسه.

فارس الفوارس:

أرأيت إلى عنترة المقهور المكسور بسبب العبودية والظلم والجحود .. لقد كان يعاني ألما فظيعا، وجرحا غائرا.

ها هو يعترف له (الفوارس) بالتفرد والقيادة..

وَلَقَدْ شَفَى نَفْسِي وَأَبْرَأَ سُقْمَهَا

قِيْلُ الفَوارِسِ وَيْكَ عَنْتَرَ أَقْـدِمِ

كأنما قالوا بصوت واحد في شفرات تتناسب مع الكرِّ والفرِّ وحومة الوغى (ويك – عنتر – أقدم).. الحسم بيدك، والقيادة لك، أنت فارس الفوارس – الذي سيقلب المعركة رأسا على عقب، تُحيل الهزيمة نصرا. 

وذلك كان دَوَاءَه الذي شفى نفسه السقيمة؛ فأذهب عنها الحسرات، وأَبْرأَهَا من الداء العُضال.

***

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى