سلايدرمقالات

د/ ذكريا النوتي يكتب فضفضة أدبية معلقات العرب وَنَوَارُ لَبِيْد

فضفضة أدبية

معلقات العرب وَنَوَارُ لَبِيْد

                     أ.د. زكريا النوتي

         الأستاذ في كلية اللغة العربية بالقاهرة 

       والعميد الأسبق لكلية العلوم الإسلامية 

الحلقة الثالثة

 (عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة)

في أتون حرب البسوس

هذه الحلقة تؤكد ما قلته عن (العرب في جاهليتهم) عبر سبع مقالات، من أنهم قوم: غدرة، فجرة، ظلمة، لا يرقبون في ابن عم أو أخ أو قريب إِلًّا ولا ذمة، وأن الرحمة لا تعرف هناك مكانا، إنهم قساة القلوب، غلاظ الأكباد، هم كالبيئة التي يعيشون فيها، وصدق المعصوم -صلى الله عليه وسلم-: “.. مَنْ بدا جفا”.. 

وشعرهم طافح بهذه الصفات التي ذكرت.. والشكوى من ابن العم كثيرة فى أشعارهم ـ هذا ذو الإصبع العدواني يقول:

لِيَ ابْنُ عَمٍّ عَلَى ما كان مِن خُلُقِ

مُخْتَلِفَانِ فأَقْلِيهِ ويَقْلِينِي

أَزْرَى بِنَا أَنَّنَا شَالَتْ نَعَامَتُنَا

فَخَالَني دُونَهُ وخِلْتُهُ دُونِي

يا عَمْرُو إِنْ لا تَدَعْ شَتْمِي ومَنْقِصَتي

أَضْرِبْكَ حَيْثُ تَقُولُ الهامَةُ اسْقُونِي

وطرفة بن العبد تتفتح عيناه على الدنيا فيرى أعمامه وقد أكلوا حقه وحق إخوته، فتنقلب براءة الأطفال غلا وحقدًا، وتطلعًا إلى استرداد الحقِّ ولو جرت الدماء أنهارًا.

والظُّلْمُ فَرّقَ بينَ حَبّيْ وَائِلٍ:

بَكرٌ تُساقيها المَنايا تَغلبُ

قد يُوردُ الظُّلمُ المبَيِّنُ آجنا

مِلْحاً، يُخالَطُ بالذعافِ، ويُقشَبُ

وقِرافُ منْ لا يستفيقُ دعارة
ً

يُعدي كما يُعدي الصّحيحَ الأجْربُ

إن بكرًا وتغلبًا أَخَوَانِ، غير أن تلك الأخوة لا تمنع قبيلة منهما أن تغير على أختها، فتغصب وتسلب وتنهب وتأسر؛ يقر بذلك شاعرهم:

وأحيانًا على بَكرٍ أخينا

إذا ما لم نَجِد إِلا أخانا

كان (كليب وائل) جبارا، غشوما، ظلوما، يضرب به المثل فيقال: “أعز من كليب وائل”. لكنها (العزة المذمومة) المبنية على الغطرسة والأنانيه والطغيان.. لقد كان ينزل أرضا فيطلق كلبه ليحدد له حماه من كل الاتجاهات (يضع الحديدة في حدود الأرض!!!) ويسميه (حمى كليب)؛ فلا يجرؤ أحد على الاقتراب منه.

استغلت (البسوس) الداهية الماكرة حمق كليب ونزقه.. وكانت خالة (الجليلة) زوج كليب، وهي تهدف إلى طلاقها منه لتزوجها ملكا من الملوك (زواج مصلحة)؛ فأطلقت ناقتها (سراب) فدخلت فى إبل كليب فحذرها وحذر صهره (مرة).. لكن البسوس ملحة على إيقاع الخلاف، ومن ثم الطلاق؛ فأرسلت ناقتها ثانية، فرماها كليب في ضرعها، فعادت تشخب دما.. ثارت ثائرة البسوس، وأخذت تلطم خدودها وتنعى حالها، وَتُعَيِّر بنى مرة من بكر بهوانهم وهوان جيرانهم، وانتهاك حرماتهم… فما كان من (جَسَّاس) إلا أن قتل (كليبا).

واشتعل أُوَارُ حربٍ دامت أربعين سنة بين بكر وتغلب.. كان المهلهل(الزير) يقود تغلبا. وهو أشد حمقا من كليب، لقد حاول (الحارث بن عباد) أن يصلح بين القبيلتين بأن قدم ابنه(بجيرا) ليقتل بكليب، لكن المهلهل قتله قائلًا (بُؤْ بشِسْع نعل كُليب)؛ فانقلب الحارث ضد تغلب.

إن قبيلة تغلب تتصف بالصَّلَفِ والغرور والتجبر والغطرسة؛ حتى قيل” “لو أبطأ الإسلام قليلا؛ لأكلت بنو تغلب الناس”.

تولى عمرو بن كلثوم وهو ابن ليلى بنت المهلهل قياده تغلب، وورث عن أجداده تلك الصفات، وربما كان أشد منهم، كما تنطق معلقته. ولج فى عنفوانه ضد بكر، حتى منع عنهم الماء.. حاول عمرو بن هند الصلح بين بكر وتغلب ، فأخذا رهنا من الحيين .. وكانوا معه في غاراته، فهلك معظم التغلبيين، وسلم البكريون.. فطالبت تغلب بكرا بديتهم فأبت.

فثارت الحرب ثانية، وعادت محاولات الصلح، وذهبت تغلب يقودها عمرو بن كلثوم.. والحارث يمثل بكرا.. وهناك قال عمرو بغطرسة: أهذا يناطقني؟! واحتقره ..

وفي إنشاء عمرو معلقته قصص وحكايات.. يقال إنه قتل عمرو بن هند، ثم أنشد قصيدته، وفيها يقول:

ألاَ لاَ يَجْهَلْنَ أَحَدٌ عَلَيْنا:

فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينا

لنَا الدُّنْيَا ومَنْ أمْسَى عَلَيْها

ونَبْطِشُ حَيِنَ نَبْطِشُ قَادِرِينا

بُغَاةٌ ظَاِلَمينَ وَمَا ظُلِمْنَا
ً

وَلكِنَّا سَنَبْدَأُ ظَاِلِميِنَا

إِذَا بَلَغَ الفِطَامَ لَنَا رَضيعٌ

تَخِرُّ لَهُ الجَبَابِرُ سَاجِدِينَا

لقد نَصَّبَ عمرو بن كلثوم نفسه ملكا على البشرية كلها، وتضخمت ذاته، واشتدت غطرسته وكبره، حتى إنني حين أقرأ هذه القصيدة؛ أستحضر صورة (هتلر).

أرايت إلى الجبابرة وهم يذلون ويركعون ويسجدون لذلك الطفل التغلبى؟! ثم إلى الدنيا بما فيها ومن فيها وقد صارت ملكا لتغلب لا ينازعها فيها أحد.. إن السلطان لهم ، والأمر والنهى ، والقهر والبطش .. بل والظلم، فهم يظلمون الناس ولا يظلمهم أحد.. وهو يذكرك بقول زهير:

وَمَنْ لا يَظْلِمْ النَّاسَ يُظْلَـمِ

وإنهم ليشربون الماء عذبا صافيا زلالا، فلهم السبق، ولا يعنيهم أن يشرب غيرهم الكدر والطين.. بل حتى لو لم يشربوا وهلكوا .. فليمت الناس ، ولا حياة إلا لتغلب.

وهكذا كانت تغلب، تتوارث تلك الصفات كابرا عن كابر، أبًا عن جد..

والحق أننى لا أطرب لهذه القصيدة؛ لما ذكرت، ولقد كانت شؤمًا على تغلب إذ كانوا عظاميين، ولم يكونوا عصاميين، ظلوا يتغنون بهذه القصيدة في المحافل والأسواق والمنتديات إلى العصر الأموى.

 ويبدو لي أن تلك الصفات فيهم جعلتهم لا ينقادون للإسلام، ففي الوقت الذي أسلمت فيه القبائل العربية، ظلت تغلب على نصرانيتها.. وكان منهم الأخطل شاعر البلاط الأموي… وشأن تغلب في (عظاميتها) شأن الشعوب أصحاب الحضارات الضاربة فى جذور التاريخ بآلاف السنين، يفخرون بما حققه الأجداد، وناموا كما يقال (فى العسل).. وياليته كان عسلا!!

ونشأت بلاد وشعوب لم يتجاوز تاريخها عده قرون؛ فسادت، وقادت، وَأَخْضَعَتْ، وَأَذَلَّتْ… يا أصحاب الحضارات، يا تغلب، ويامن هم على تلك الشاكلة، حري أن يقال لكم: 

(نمتم وأدلج الناس)

لقد عير الشاعر قبيلة تغلب بهذه العظامية قائلا:

ألهى بني تَغلبٍ عن كلِّ مٍكرُمةٍ

قصيدة قالَها عمرو بنُ كُلثومِ

يَروَونها أبداً مُذ كان أوّلُهم

يا للرِجالِ لِشِعرٍ غيرِ مَشؤومِ

***

الحارث بن حلزة

وهو فى معلقتة هادئ النفس، ليس متوترا، وإنما مسالم، لطيف – إلا أنه رد بهدوء مفاخرة عمرو بن كلثوم، وتغنى بأمجاد بكر. 

يقول في مطلعها

آذَنَتْنَا بِبَينِهَا أَسْماءُ

رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ

بَعْدَ عَهْدٍ لَنَا بِبُرْقَة ِ شَمّاءَ

فَأَدْنَى دِيارِها الخَلْصاءُ

فالمحّياة ُ فالصِّفاحُ فأعنـا

قُ فتاق ٍ فعاذبٌ فالوفاءُ

فرياضُ القطـا فأودية ُ الشُّر

بُبِ فالشُّعْبَتَانِ فالأَبلاءُ

لا أرى من عهِدتُ فيها فأبكي الـ

يومَ دلْهـاً وما يحيرُ البكاءُ

وبعينيكَ أوقدتْ هندٌ النا

رَ أخِيرا تُلْوي بِهَا العَلْيَاءُ

ويستوقفني في قصيدة الحارث أمران:

الأول: أن (أسماء) هذه ليست امرأة حقيقية، وإنما هي رمز.. وحين نرجع إلى معاجم اللغة نجد أنها من مادة (س م و)، وهذه المادة منها اشتق: السماء، والسموات، ويقال للسحاب: سماء، وكذا المطر: 

إذا سقط السماءُ بأرضِ قومٍ

رعيناهُ وإنْ كانوا غِضابَا

والعشب: سماء.. 

وبذلك لا تعجب حين تجد الشعراء بعد ذكرهم (أسماء) يتبعونها الحديث عن: الماء والسحاب والبرق والرعد والمزن والودق..

نخلص من هذا إلى أن: (أسماء) رمز يشير به الشاعر إلى حياة الرغد والرخاء والصفاء والأمن والسلام التى كانت تحياها القبيلتان (بكر وتغلب) قبل أن تنشب الحرب بينها … 

لقد (بانت) أسماء: أى تلك الحياة الهانئة السعيدة ولت، وصارت فى خبر كان، بعد أن تقطعت الأرحام، وحلَّ الظلم والبغى والجبروت – وسالت الدماء أنهارا–، لقد خيم الخراب على كل شىء.. 

وتأمل معجم الشاعر تجد أسماء الأماكن والمواضع من الخصب والعذوبةـ وهم الذين أسموهاـ ( برقة – الخلصاء – محياة – عاذب – الوفاء – رياض القطا … الخ ) 

وحق له أن يتحسر على تلك الأيام؛ إذ أصبح لا يرى الأحباب … 

ويأتى البيت السادس ويذكر فيه (هندا) وهي ليست امرأة، وإنما هى من أحياء بكر كما ذكر (ابن سيدة) يقال لهم: بنو هند.. كانوا من الجود والكرم بحيث يوقدون النار هداية للسارين، وقرى للضيفان.. كأنه يشير بذلك من طرف خفي ـ إلى أن قبيلة بكر لم يكن لها نصيب فى إذكاء نيران الحرب، وإنما تتحمل تغلب التبعة كاملة.

أشير هنا إلى ملحظ آخر:

لقد كان الحارث به برص، وحين بدأ إنشاد قصيدته كان بينه وبين الملك وأمه سبعة أستار، وما إن بدأ الإنشاد حتى أمر الملك بإزالة الأستار واحدا تلو الآخر حتى إنه جلس يأكل معهما في صفحة واحدة. 

والسؤال: أين ذهب البرص الذي خشيه الملك وأمه، فقد تخوفا من العدوى؟!

كان العرب فى الجاهليه يعتقدون أن وراء الشاعر قوى غيبية خفية هى التى تلهمه هذا الشعر، وتلقيه على لسانه، تارة يسمونه جنيا وغير ذلك، حتى إنهم قالوا عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “شاعر مجنون” أي وراءه جنى هو الذي يلهمه القرآن.

لكأنما كان إعجاب الملك بالقصيدة.. وبالقوى الغيبية الملهمة.. سببا فى تغير قناعته أن هذا الشاعر تتأتى منه العدوى.. فالقوى الغيبية التي تلهمه هي نفسها التي تكون حائط صد من العدوى.. ويؤكد ذلك ما تناقله الرواة من أن الملك أمره ألا ينشد هذه القصيدة إلا متوضئا!!!

وهكذا كانت المعلقتان فى (حرب البسوس) وقبلهما معلقتا (زهير وعنترة) فى (داحس والغبراء) وفى الحلقة الأولى (امرؤ القيس وطرفة) وكلتا المعلقتين مذكرات شخصية للشاعرين.

إلى اللقاء مع (لَبِيْد وَنَوَار)

(يتبع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى