مقالات

وفاء العنزي تكتب من المغرب عشق من نوع خاص

لم تكن لهذه السطور تكرارا لسيرة حياة…..يعرفها الكثيرون ويذكرها الكثيرون،ولكنها تذكرة بحياة كانت……لم تغب أبدا تفاصيلها عن ذهن أجيال وأجيال……وسفر إلى تاريخ هو رحم الحاضر…..وتبقى تلك الأيام،أيام زمن جميل،مهما كانت صعوبته أو قسوته و قساوته ،تبقى أيام لزمن ماضي جميل،وأيامه الأجمل والأقرب إلى القلب،ببساطته، ببهجته
.بعفويته،بصخب أيامه ومرارتها،إلا أنه تبقى له نكهة حب وولع ورقة وعذوبة، لها وقعه الخاص على القلب،له طابعه الخاص،كان يضفي على معيشتنا ألوانا زاهية من الفرح،وإن كنا قد افتقدناه وافتقدنا أيامه التي بعثت فينا ألوان قوس قزح حقيقيةمفرحة،مبهجة،لطالما تظللنا بالبهجة والسرور،يبقى زمن نفرح لمجرد ذكره وتذكره واستذكاره،ماضي قذفت به الأيام بعيدا عنا،ماضي صاخب وهادئء،ماضي مفرح ومحزن،يمضي بنا سريعا غير قادر على أن يتوقف،يتدحرج بصورة مرعبة تاركا في فكر وعين كل منا شريطا من الذكريات الجميلة،ذكريات بهيجة بهية،ذكريات رسمت داخل أعماقنا صورا حفظناها في عيوننا ،وحنين عظيم حبسناه داخلنا،وأشواق باتت واضحة بكلماتنا،وحب لا يمكن أن نخفيه فينا،فنسير في دروبنا،هي ذاتها التي مشيناها أيام الصبا،ونسمع صدى ضحكاتنا،ونمسح دموع أحزاننا من طريقنا ونشبك الأيادي مع أصدقائنا للذهاب لمدارسنا،فلا تزال نفس مشاعرنا فينا،ودفاترنا لا زالت مملوءة برسومات طفولتنا،ومقاعدنا لا زالت تحوي دفىء حكايتنا،وأحبار أقلامنا لا زالت مملوءة تنتظر قدومنا،قد نرجع او لا نرجع،فنحن حقا في حاجة لقوة وصبر لننتظر لحظات المخاض،كي نخرج للحياة ونصرخ لتتفجر منا حياة الماضي وتتدفق للشرايين،ونبدأ حياتنا القديمة الجديدة .
هي حياة ذكريات نعيد ترميمها لتبقى عالقة في مخيلتنا،رغم تباعد الأيام وازدحامها،ذكريات مدهشة ومشرقة ،مونقة وممتعة،فلذكرياتنا تجاعيد تماما كالسنين،لكنها تسكن الأرواح لا الوجوه،ذكريات كانت حافلة بالإستقرار والهناء،مفعمة بالصدق والتحدي،والألم والأمل، والغنى والفقر،كانت حافلة بالتفاصيل الإنسانية الثرية التي تعدد ليلا على أن هذه المدينة التي عشت فيها وعاشت معي،هي ذكريات تكتب على سطور بمداد من ذهب،مدينة هي جزء مني وأنا جزء لا يتجزأ منها،هي جزء من وطني الحبيب الغالي،المغرب.
هي جسر للعبور بين الشمال والجنوب،هي قنطرة مرور،هي قنيطرة ،أو ميناء ليوطي كما كانت تسمى قبل،هي مدينة قابعة بين مياه حالمة،مياه فردوس منسي لنهر جميل بعذريته الخالدة،نهر هادئ وساكن ينبع من جبال الأطلس المتوسط الشامخة ويتدفق ليصب في بحر المحيط الأطلسي مرورا بمدينة فاس العتيقة ومدينتي،ولو تغزلت في وصف سحره لن أوفيه ،به قلعة صامدة تطل على مصب النهر تعاقب عليها عدة سلاطين وصارت قصرا لهم،وتطل على محمية تعد موروثا إ كولوجيا عالميا ومرتعا لعدة أنواع من الطيور ومثوى لمختلف الطيور المهاجرة.
البحر بمدينتي هو بمثابة داري،ووطني وجاري،أقذف فيه كل آلامي وهمومي،وأشكو له كل أحزاني،فهو ملاذي،أعشق جنونه ورقته وشجونه،فهو دائما يسمعني وفي سري يحفظني
فأذكر شوقي إلى الماضي،وأذكر حنيني إلى المجهول،وأذكر شعور الإغتباط والجمال الفني الذي يستهويني في غروب الشمس،فهو عناق حار بين النهر والبحر،فيا لنهم الحياة والحب في مدينتي،ويا لعشقي بها وبغروب شمسها على المصب،فأنا مأخوذة بسحر ذلك المنظر الناضر النضير،الفتان الفاتن،فأنا أخاف على الشمس من السقوط، ليبتلعها البحر ويكفنها الموج فأظل شاردة فيها تلم أذيالها،تخلع اثواب النور ، وفي نزول النهر من الجهة الأخرى وهو أكثرهدوء،ليصل لزبد البحر وصخبه،فيتكاثف الإثنان معا في رحلة حياة جديدة ليس لها أول ولا آخر،وهكذا يسيران تحت مراقبة الشمس،وقد صارا ماء واحدا،فقلت وحشتهما،وضما بعضهما البعض ،وزاد أنسهما وحبهما،فألمح نجواهما وشعورهما بالرضا الوادع والحكمة الهادئة،وهما يندلفان معا في سير وديع وادع،ما سار الزمن وبقيت الحياة،فلم يعد يظهرا لي،فقد تمسكا كل منهما بالآخر متشحان بثوب الأناة والأمان والأمن،ثوب الهدأة والهوادة.
مدينتي لها أيضا منتزهات غابوية جد شاسعة،هو جنان مترامي الأطراف، كثير الأشجار،الخلاب الجذاب،داكن الخضرة،عابق الشذا ،فالأغصان فيه المزدانة بأوراقها وأزهارها تستهوي النفس وتبهج القلب ،لها مزايا لن تجدها إلا في مدينتي،مدينتي فريدة كاللؤلؤ الفريد،بها شجر الفلين والبلوط ،وزهرة الأقحوان ( حلالة).
فمدينتي نجمة متألقة فاتنة،ذات بهاء ساحر وسالب،لا يستطيع أحد أن يقاوم سحرها الطاغي،فقد كانت عشقا وعشقا ومعشقا لكبار الجنرالات منذ عهود خلت،وتعاقبت عليها جيوش وجيوش و لم يستطع أحد طمس معالمها ،فقد كانت أبية تأبى الذل والهوان،تتميز بأصالة نسبها،وصفاء عرقها،هي آية في الجمال الفخم المتين،كانت تتألف بسحر ورونق فيلاتها وما أدراك ما فيلاتها،فهي تحيا بمجد المحبةونور الجمال،كانت تنطق بالجمال الواضح والأمن في تفاصيل بنيانها الذي يتسم بالأناقة والفخامة من الداخل لغاية آخر ركن فيها،حيث تبرز لمسات فنية متكاملة،فمدينتي تذكرك بذاك التمثال الأنيق الذي تخشى عليه من الكسر السريع.
كانت مدينتي تبتسم في الربيع وتضحك في الصيف وتتأوه في الخريف وتريد أن تبكي في الشتاء ومن دموعها الباردة تسقي الحياة الرابضة في كل جوانبها.
قد لا يخطر ببالك وأنت تلقي نظرة على مدينتي أن هناك حكاية رومانسية تظهر جليا في أجواء المدينة بين طائر اللقلق المهاجر،الذي وقع في حب مدينتي،ولم يعد يقدر على فراقها بل أصبح مقيما بها إقامة دائمة، لما وجده من عناية وكرم العيش بين سكانها،فهو الطائر المدلل بها.
لمدينتي تربة طيبة زرعت وحصدت ثمار سنوات خلت،كان الفن الأصيل يخرج من أفواه فنانيها،عامرة بأبطالها الرياضيين،فأنجبت الأفذاذ من الرجال والنساء،والقامات العظيمة التي يذكرها التاريخ بكل فخر واعتزاز،عامرة بسكانها الطيبين،الشعبيين،عامرةبخيراتها،فمدينتي كل من زارها يقع في حبها .
لم أكن أعرف أن للذاكرة عطر،ولمدينتي أيضا عطر،فأنا أشم رائحتها ما ان أعود لها،رائحة قنيطرية،رائحة فوحة فواحة،فمن لي بغيرها عشقا فأعشقه ومن لي بغيرها شوقا وأشتاق له،فكلما تملصت من ضوضاءها وغوغاءها وخرجت هاربة منها،يفيض بي الحنين ويشدني الشوق لها وأعود مسرعة لأرتمي بين أحضان ربوعها ،فحبي لها يسكن القلب والروح ، حبي لها حب عذري، فأنا أنتمي لها كما أنتمي لأمي،بل هي أمي التي حضنتني منذ طفولتي وأوتني في شبابي واحتضنتني في نضجي،فأنا كيفما أصبحت وصرت وأضحيت سأظل إلى الأبد الآبدين أعشق كل شيء فيها،وسأظل أذكر وأتذكر وأتأمل عن بعد أعمال الإنسان فيها،وأحاول ألا أفكر فيما صنعه ابن آدم في مدينتي،فقد هجم وحش إسمنتي على سكينتها، وغصب جمالها واندثرت بعض معالمها،وانا في هذه الخاطرة المسائية، أشعر برعشة في جسمي وغصة في قلبي،وأحس بدمعة في عيني،فما أدري أهذه دمعة شعور بجدل الحياة أم هو بكاء على ذكرى عطرة،بكاء كيف كانت وكيف صارت،ألا ليت الشباب يعود يوما،بل ألا ليت قنيطرتي تعود.
محبتي ومودتي وفاء العنزي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى